1- من دنياي الصغيرة الملونة ..
نشأت في أحد أقدم أحياء وجه بحري ، بل ومصر كلها ، حيث يقترب عمره من الألف عام
وبه مساجد عمرها يتجاوز القرون الثمانية ، فيه أستوطن اليهود والعرب ، الكاثوليك والجريج والطليان والعفاريت الزرق !
في تلك الأزقة الحجرية الأفعوانية ،
فى المتاجر والورش والأسواق والمقاهي والمساجد والبيوت العتيقة ،
بذرت بذرتي ورويت وسوتها الشمس وتمايلت سنابلها على أصطكاك حدوات الأحصنة ببازلت الأزقة ،
وطربت حتي الثمالة من سيمفونية ضجيج الباعة وأصوات المآذن وشغب الصغار وتسابيح المشايخ ،
وسهرت على ضوء القمر ،
حتى حصدوها وطحنوها وعجنوها في كل المزيج الذي تغذت عليه ،
ثم ألقوا بها في نار الحطب ، ليخرج هذا الشيئ الذي هو أنا !
جئت الى الدنيا باكيا بصوت عال ، ربما أكثر من أي طفل وليد ، لضجري واختناقي من صهد أواخر يوليو ورطوبته الخانقة !
ليهرع الى صوت رطيب حان ، من الجامع القريب من بيت جدي ، يتلقفني من بين يدي جدتي ،
ليلف قلبي الغاضب فى غلالة من أنس ويغمسه فى الندى !
أنه صوت أذان الفجر ، الله أكبر ، ما أحيلاها تغمرني بردا وسلاما ،
لتبقى حلاوتها في وجداني ماحييت ، من يومها وصوت الأذان بوصلتي فى الحياة !
يتزاحم حولي الجدات والخالات ، والأب والأعمام ، ليعيدوني الى التعرق والضجر ،
بالكاد أفهم من جلبتهم أنهم بأنتظار عودة جدي من صلاة الفجر ليسميني ،
فأنا أول حفيد ذكر يرزق به ، لطالما تلهف عليه بعد زهرتين !
كل يتلقفني ، يحملق بي وأنا بعد هشا طريا ،
يتمتم عمي ضاحكا هذا الولد كأنه " مسلة " يردف أبي ، بل " مأذنة " لتضيف جدتي ، بل " برج حمام " !
حتى تغشاني أطلالة جدي الحبيب ، بقامته المنتصبة كسهم ، بنظراته الحادة كسيف ، وكلامه الفاصل كحكم !
هذا الصانع النادر الماهر ، المعلم الكبير الشهير ، الذي سيصنع رجولتي فيما بعد ،
ليقول فى حسم : ان شاء الله يكون الثلاثة ، المسلة والمأذنة وبرج الحمام ،
سميته " محمد " ببركة الحبيب " محمد " !
هو جدي .. المعلم " أحمد " الذي سيصحبني في الشوط الأول من الرحلة ،
حتى يترك كفي لأول مرة وقد أتممت خمسة عشر ربيعا ، ليلبي نداء مولاه !
أسكن في حجره وهو يصغي بخشوع لقرآن يتلى ، أعابثه وأتقافز حوله طربا للحن جميل ينثره مذياعه ،
أتعلق بكفه القوية الدافئة الحنونة ، في تجواله ، أتدلل عليه متصنعا التعب ، ليصعد بي الي كتفه ،
حيث قامته الشامخة ، أطل منها بفرح على كرنفال دنياي الصغيرة الملونة ،
نرشف من رحيق الجوامع ،
ندلف الى مطحن البن ، لأتبخر بعبقه وأتدلل على صاحبه ، الحاج " محرم " صديق جدي المقرب ،
ليحملني لأشاهد مراحل تحميص حبات البن بتؤدة ورفق على نار الخشب ،
لتسكب فى المطحنة ، وتغمرني نكهتها ، وتتخلل جيناتي !
وددت لو أمضي بقية عمري في مطحن البن ، أنهل من حنان صاحبه وسخاءه ، وأتغذى على عتاقة المكان والنكهة !
نستروح على المقهى حيث ندماء جدي ، كلهم يحتفون به وبزهرة فؤاده ،
يوقرونه ويهبون واقفين له ، يتنافسون على الترحيب به ،
اسبح أنا فى عالم من الألفة والحميمية ، التناجي والبوح ، الشرود والقهقهة ،
الطرب المنساب من المذياع ، الموسيقى المصاحبة لرقص الملاعق فى الأكواب ،
وطرقعة الصواني ، وجلبة وصياح النادلة ، وضجيج الشارع وتداخل صور الغادين والرائحين ، وأختلاف حوائجهم ،
أغيب في سحابة من شذى توليفة صوفية من روائح ، التبغ والقهوة ، القرفة واليانسون والنعناع ،
وعرق الكادحين وعطور الميسورين !
نذهب الى السوق لنشتري خروفا للأضحية ، يشتريه جدي مبكرا جدا ، يفضله صغيرا ، ليصنعه على عينه بمهارة ومزاج ، كما يصنع مشغولاته الحديدية !
ترهبني ضمة السوق ، أخاف أن أفقد كف جدي فى زحامه المتكالب ، وصخبه الفوضوي ،
نصل الي حيث الشادر المخصص للخراف ،
تلتقي عينانا ، حيث يجلس ساهما في وداعة يلوك أعوادا من البرسيم الغض ، يبدو مستغرقا فى استشراف مصيره ،
يلبس فروة بنية داكنة ، بعينيه الصافيتين يرمقني ، في تردد وخجل !
أمسح على رأسه الصغير ، أمرر كفي بحنان على فروته النظيفة ، أهمس ، تعال معي ،
أخاف من هذا الرجل المهيب الذي يصحبك ! يغمغم ،
هذا جدي المعلم " أحمد " يبدو صارما ، لكنه كريم وحنون ، ستحبه ،
أعددت لك مكانا جميلا ، فى حوش البيت ، في ركن منه يقبع فرن الحطب ، ستنعم كل صباح برائحة الخبز ، وستظفر بلقيمات طازجة منه ،
وتستمع لحكي النسوة ، وتطلع على أسرارهن !
وسيصلك على مدار اليوم صوت مذياع جدتي الذي لايسكت أبدا ،
لتستفتح بالقرآن وتسمع الأغاني وتتسلى بالمسلسلات ، وتشم رائحة قهوة جدتي ، على الريحة !
وفى الليل تسهر على شغب أعمامي السبعة وأصدقائهم ، وتقهقه لنكاتهم الجريئة ، وتطرب معهم لكوكب الشرق !
لتصحو على أذان الفجر كما صحوت أنا فى أول زيارة لي، لبيت جدي !
ينتفض جزلا ، وقد ألقى بما بقى من أعواد برسيم توقف عن مضغها وهو مشدوه يسمعني ، يسبقني متمتما بفرح هيا ، فيبدو أن جدك قد أتم صفقته ،
لنمضي صوب البيت ، يهمس ، ولم يزل بعد وجلا من جدي ، لم تقل لي ما اسمك ؟ محمد ، وأنت ؟ اسمي نسيم !
نمر بزرافات من الخراف ، يحاذينا أحداها ، ماء ماء ، مبروك يانسيم صاحبك الجميل ،
لما لايحمل في يده خيرزانة كتلك التي يحملها الشحط الذي يسوقني ؟!
نفطس من الضحك ، أنا ونسيم !
أشعر وكأنني صندوق الدنيا ،
فمن ورشة جدي في قلب السوق القديم ، عايشت الباعة والصناع والحرفيين وتعلمت وأتقنت الكثير من الحرف ،
ومن ألتصاقي بجدي عرفت المساجد العريقة ودروس قمم علماء الأزهر وعشقت سماع مشاهير القراء ،
ومن مجالس العائلة وأصدقائهم وأقاربهم أدمنت السياسة فقد كانوا قوميين ناصريين ،
ومن الراديو الذي لايهدأ والجرائد التي لاتنقطع ، وعمي الأزهري ، عالم اللغة العربية ، عرفت اللغة والثقافة والفن ،
لأصبح مميزا في وسط أقراني في الحي وفي المدرسة ،
لقدرتي المذهلة على الأضحاك والتقليد والحكي وشجاعة الخطابة
.. ونحت الكلمات !
2- مدرستي ..
مدرستي الأبتدائية التي أكاد لا أصدق أن هناك مدرسة في جمالها وأناقتها ونظافتها ،
تتألق كقصر صغير أشجاره باسقة وظلاله وارفة ،
حتى سورها منمق وجميل !
تبدو وكأنما ألقيت من طائرة لتستقر وسط " غوطة "
غنية بأشجار الكافور والجازورينا التي تحتشد كجند شداد
تحيط بأشجار الياسمين والبرتقال والليمون والجوافة والتوت ،
يؤنس ذلك كله نخل باسقات طلعها نضيد !
تستقبلك المدرسة بمدخل مهيب لمحراب علم ومحضن تربية ، درج رخامي أبيض يشف ،
حديقة أنيقة تتآلف فيها الورود والأزهار ،
مسرح فخم بستائر مخملية نبيذية ،
تتألق ، في ركن مميز منه ، آلة بيانو تبدو كتحفة فنية نادرة ،
قاعة للألات الموسيقية بكافة أنواعها ،
فناء فسيح يتزين ركن منه بمسجد صغير جميل ،
أحببت مدرستي وتعلقت بها ،
منذ أن أستقبلتني وأخذتني من يدي ..
.. لتعرفني على الورود والموسيقى !
* مدرستي تلك حقيقية ، بل ان كلماتي تتواضع أمام عظمتها ، فقد كانت من مفاخر ثورة يوليو 1952 ، ذهبت اليها سنة 1967
No comments:
Post a Comment