Search This Blog

Sunday, July 24, 2011

يمامة

أبنتي " ياسمين " صاحبت يمامة ،
ترقبها كل صباح تحط على شباكها ،
وكأنها في حالة بحث عن الحب !
فى صباح مشمس جميل ،
حومت اليمامة كعادتها في خجل لتجد "ياسمين " قد أعدت لها متكئا ،
 ونثرت حبات قمح لاتزال تحتفظ بدفء كفها الحنون الصغير ،
 فوق عتبة الشباك الخارجية النظيفة الواسعة المغموسة في الظل والترحاب ،
 وقد توارت خلف شباكها في هدوء كي لاتخجل ضيفتها الرقيقة الهشة  !

حطت اليمامة فرحة بطيب الأستقبال وكرم الضيافة ،
 وأخذت تلتقط الحب المغموس في الحب ، وقد غشيتها الطمأنينة وبدا منها الأمتنان ،
 شبعت ورويت وتلفتت وكأنها تود أن تبث مضيفتها  " سيدة القصر " .. الأميرة الصغيرة  " ياسمين "
 شعورا بالفرح ، أن بادلتها الصداقة ،
 لتحلق هانئة بجناحين أحدهما للحب والآخر للحرية  !
غمرتني نورانية التجربة وملائكيتها ، فصرت أرقب لقاءات الغدو والآصال ..
تحط اليمامة ، بل وتحضر معها من يبدو أنها أحدى صديقاتها المقربات ، ليرتعن على شباك الحب والحرية ،
فأذا لم تجد " ياسمين " تتقافز وتروح وتجيئ ، ويشرئب عنقها الصغير صوب ماتعتقد أنه مكان وقوف " الأميرة " !
تنوح بصوت كله أشتياق ولهفة ، حتي أذا أيست من ألقاء تحية الصباح عليها ،
 حلقت متلكئة تتلفت ، علها تدركها قبل الرحيل  !
تصحو " ياسمين " لأحكي لها وأنقل لها تحية يمامتها ،
 تتمتم بفخر ، لشد ما أنا فرحة أنها حرة طليقة تحلق كما أرادها الله ،
 لتذكرني بمن قال :
قد كان عندي بلبل في قفص من ذهب
وكان يشدو دائما بكل لحن مطرب
ولم أكن أمنعه من مأكل أو مشرب
ففر مني ونأى بدون أدنى سبب
وقال لي : حريتي لاتشتري بالذهب  !
تنهدت قائلا ، هل تعرفين يا " ياسمين " قصة يمامة " عمرو بن العاص " التى كانت تعشش على فسطاطه بالأسكندرية ؟!
متلهفة قالت : هاتها يا أبي ، كي أحكيها ليمامتي  !
قلت ، ذكر الرافعي في كتابة وحي القلم  :
هكذا رأت الفتاة المسيحية " مارية "
( وهى وصيفة “أرمانوسة” التي تزوجت من “قسطنطين بن هرقل” وجهزها ابوها المقوقس لتسير إليه وكان معها الفتاة " مارية " )
وكان المقوقس قد اختارها لتكون كنيسة حية لأبنته وكانت شديدة التدين في المسيحية

عندما قرر عمرو بن العاص ان يعيدها لأبيها معززة مكرمة ،

 تناهى إلى سمعها أن عمرًا قد سار إلى الإسكندرية للقتال وظلت مارية تتابع الفاتح عمرو وتسأل عن أخباره بشغف !
 ثم شاع الخبر في كل مكان من أرجاء مصر، أنه لما أمر بفسطاطه أن يقوض ،
 أصابوا يمامة قد باضت في أعلاه فأخبروه فقال: “ قد تحرمت في جوارنا، أَقِروا الفسطاط حتى تطير فراخها ” فأقروه !
 ولم يمض وقت طويل حتى ماتت مارية وحفظت عنها ارمانوسة هذه الأبيات الرقيقة من الشعر:
على فسطاط الأمير يمامة جاثمة تحضن بيضها
تركها الأمير تصنع الحياة
وذهب هو يصنع الموت
هي كأسعد امرأة ترى وتلمس أحلامها
إن سعادة المرأة أولها وآخرها بعض حقائق صغيرة كهذا البيض
على فسطاط الأمير يمامة جاثمة تحضن بيضها
لو سئلت عن هذا البيض لقالت: هذا كنزي
هي كأهنأ امرأة ملكت ملكها من الحياة ولم تفتقر
هل أكلف الوجود شيئًا إذا كلفته رجلًا واحدًا أحبه؟
على فسطاط الأمير يمامة جاثمة تحضن بيضها
الشمس والقمر والنجوم كلها أصغر في عينها من هذا البيض
هي كأرق امرأة عرفت الحب مرتين
في الحب وفي الولادة
هل أكلف الوجود شيئًا كثيرًا إذا أردت أن أكون كهذه اليمامة؟
على فسطاط الأمير يمامة جاثمة تحضن بيضها
تقول اليمامة: إن الوجود يحب أن يُرى بلونين في عين الأنثى
مرة حبيبًا كبيرًا في رَجُلها
ومرة حبيبًا صغيرًا في أولادها
كل شيء خاضع لقانونه والأنثى لا تريد أن تخضع إلا لقانونها  ..
يا " ياسمين " ..!

أشتقت الى الورود

"  فهذي وردة نبتت بتربي ، بدت في حمرة ، من ذوب قلبي  ..
تقبلها بهذا القلب رفقا ، فلي قلب وهذا القلب حسبي  "

أذكر آخر مرة أشتريت فيها ورودا ، كانت لعيادة مريض ..
تبهرني الورود !
 تنبثق من الشمس والظل ،
 الحر والبرد ،
النور والظلام ، الظمأ والارتواء ،
 لتتفتح ، تتألق ، تتبرج ،
 تلبس لونها ، تضع عطرها ،
 تترقب التفاتة منك ، لتهمس هيت لك ،
 ترنو للاستشهاد بين يديك ،
 لتحتفي بها لحظة ثم تتركها وحيدة تجرع الذبول والانزواء ،
 فأي نبل ؟!
تغمر البيت بهجة وامتنانا لقدومك لدنياها ،
 تغني فى عيد ميلادك ، تزغرد لنبأ نجاحك ،
 تظلل على حبك وتحفظ أسراره ،
 تونسك يوم تظفر بمحبوبك ،
 تزفك لعرسك ،
 ترقص بأفراحك وتواسيك بأتراحك ،
 تظل تستجدي قربك حتى تشيعك باكية ،
 كلهم يرجعون وتبقى هي ساهرة على قبرك ،
 تنتظر الساعة لتشفع لك ،
فأي وفاء ؟!
الورود هي الحياة ،
 تفتح وذبول ، توهج وخفوت ،
 افتتان وعزوف ، تألق وانزواء !
 كل معاني الحق والخير والجمال تمثلت فيها !
حتى ديننا الحنيف الجميل ،
 جعله الله بستانا من الورود ،
 تتنسم فيه البشرية عبق الحرية ،
وتأنس بعبادة الله الواحد ،
في روح وريحان وجنة نعيم
والنبي العظيم محمد ، الذي أرسله ربه ،
كشجرة ياسمين نبتت في صحراء التيه والجهالة والضلال ،
 رحمة للعالمين ،
 لتهوي اليها أفئدة الحيارى ويتفيأ ظلالها المحرومون !

اشتقت الى الورود بعد أن تزاحمت علينا الحناجر والألسنة ،
 لتملأ حياتنا ضجيجا وشقاقا وفظاظة ،
 نحتاج قلوبا و ورودا لتملأ حياتنا بقيم الحق والخير والجمال !

عود الى البدايات - 1

1- من دنياي الصغيرة الملونة ..
نشأت في أحد أقدم أحياء وجه بحري ، بل ومصر كلها ، حيث يقترب عمره من الألف عام
وبه مساجد عمرها يتجاوز القرون الثمانية ، فيه أستوطن اليهود والعرب ، الكاثوليك والجريج والطليان والعفاريت الزرق  !
في تلك الأزقة الحجرية الأفعوانية ،
فى المتاجر والورش والأسواق والمقاهي والمساجد والبيوت العتيقة ،
بذرت بذرتي ورويت وسوتها الشمس وتمايلت سنابلها على أصطكاك حدوات الأحصنة ببازلت الأزقة ،
وطربت حتي الثمالة من سيمفونية ضجيج الباعة وأصوات المآذن وشغب الصغار وتسابيح المشايخ ،
وسهرت على ضوء القمر ،
حتى حصدوها وطحنوها وعجنوها في كل المزيج الذي تغذت عليه ،
ثم ألقوا بها في نار الحطب ، ليخرج هذا الشيئ الذي هو أنا  !
جئت الى الدنيا باكيا بصوت عال ، ربما أكثر من أي طفل وليد ، لضجري واختناقي من صهد أواخر يوليو ورطوبته الخانقة !
ليهرع الى صوت رطيب حان ، من الجامع القريب من بيت جدي ، يتلقفني من بين يدي جدتي ،
ليلف قلبي الغاضب فى غلالة من أنس ويغمسه فى الندى !
أنه صوت أذان الفجر ، الله أكبر ، ما أحيلاها تغمرني بردا وسلاما ،
لتبقى حلاوتها في وجداني ماحييت ، من يومها وصوت الأذان بوصلتي فى الحياة  !
يتزاحم حولي الجدات والخالات ، والأب والأعمام ، ليعيدوني الى التعرق والضجر ،
بالكاد أفهم من جلبتهم أنهم بأنتظار عودة جدي من صلاة الفجر ليسميني ،
فأنا أول حفيد ذكر يرزق به ، لطالما تلهف عليه بعد زهرتين !
كل يتلقفني ، يحملق بي وأنا بعد هشا طريا ،
يتمتم عمي ضاحكا هذا الولد كأنه " مسلة " يردف أبي ، بل " مأذنة " لتضيف جدتي ، بل " برج حمام " !
حتى تغشاني أطلالة جدي الحبيب ، بقامته المنتصبة كسهم ، بنظراته الحادة كسيف ، وكلامه الفاصل كحكم !
هذا الصانع النادر الماهر ، المعلم الكبير الشهير ، الذي سيصنع رجولتي فيما بعد ،
ليقول فى حسم : ان شاء الله يكون الثلاثة ، المسلة والمأذنة وبرج الحمام ،
سميته " محمد " ببركة الحبيب " محمد " !
هو جدي ..  المعلم " أحمد " الذي سيصحبني في الشوط الأول من الرحلة ،
حتى يترك كفي لأول مرة وقد أتممت خمسة عشر ربيعا ، ليلبي نداء مولاه  !

أسكن في حجره وهو يصغي بخشوع لقرآن يتلى ، أعابثه وأتقافز حوله طربا للحن جميل ينثره مذياعه ،
أتعلق بكفه القوية الدافئة الحنونة ، في تجواله ، أتدلل عليه متصنعا التعب ، ليصعد بي الي كتفه ،
حيث قامته الشامخة ، أطل منها بفرح على كرنفال دنياي الصغيرة الملونة ،
نرشف من رحيق الجوامع ،
ندلف الى مطحن البن ، لأتبخر بعبقه وأتدلل على صاحبه ، الحاج " محرم " صديق جدي المقرب ،
ليحملني لأشاهد مراحل تحميص حبات البن بتؤدة ورفق على نار الخشب ،
لتسكب فى المطحنة ، وتغمرني نكهتها ، وتتخلل جيناتي !
وددت لو أمضي بقية عمري في مطحن البن ، أنهل من حنان صاحبه وسخاءه ، وأتغذى على عتاقة المكان والنكهة !
نستروح على المقهى حيث ندماء جدي ، كلهم يحتفون به وبزهرة فؤاده ،
يوقرونه ويهبون واقفين له ، يتنافسون على الترحيب به ،
اسبح أنا فى عالم من الألفة والحميمية ، التناجي والبوح ، الشرود والقهقهة ،
الطرب المنساب من المذياع ، الموسيقى المصاحبة لرقص الملاعق فى الأكواب ،
وطرقعة الصواني ، وجلبة وصياح النادلة ، وضجيج الشارع وتداخل صور الغادين والرائحين ، وأختلاف حوائجهم ،
أغيب في سحابة من شذى توليفة صوفية من روائح ، التبغ والقهوة ، القرفة واليانسون والنعناع ،
وعرق الكادحين وعطور الميسورين  !
نذهب الى السوق لنشتري خروفا للأضحية ، يشتريه جدي مبكرا جدا ، يفضله صغيرا ، ليصنعه على عينه بمهارة ومزاج ، كما يصنع مشغولاته الحديدية !
ترهبني ضمة السوق ، أخاف أن أفقد كف جدي فى زحامه المتكالب ، وصخبه الفوضوي ،
نصل الي حيث الشادر المخصص للخراف ،
تلتقي عينانا ، حيث يجلس ساهما في وداعة يلوك أعوادا من البرسيم الغض ، يبدو مستغرقا فى استشراف مصيره ،
يلبس فروة بنية داكنة ، بعينيه الصافيتين يرمقني ، في تردد وخجل !
أمسح على رأسه الصغير ، أمرر كفي بحنان على فروته النظيفة ، أهمس ، تعال معي ،
أخاف من هذا الرجل المهيب الذي يصحبك ! يغمغم ،
هذا جدي المعلم " أحمد " يبدو صارما ، لكنه كريم وحنون ، ستحبه  ،
أعددت لك مكانا جميلا ، فى حوش البيت ، في ركن منه يقبع فرن الحطب ، ستنعم كل صباح برائحة الخبز ، وستظفر بلقيمات طازجة منه ،
وتستمع لحكي النسوة ، وتطلع على أسرارهن !
وسيصلك على مدار اليوم صوت مذياع جدتي الذي لايسكت أبدا ،
لتستفتح بالقرآن وتسمع الأغاني وتتسلى بالمسلسلات ، وتشم رائحة قهوة جدتي ، على الريحة !
وفى الليل تسهر على شغب أعمامي السبعة وأصدقائهم ، وتقهقه لنكاتهم الجريئة ، وتطرب معهم لكوكب الشرق  !
لتصحو على أذان الفجر كما صحوت أنا فى أول زيارة لي، لبيت جدي !
ينتفض جزلا ، وقد ألقى بما بقى من أعواد برسيم توقف عن مضغها وهو مشدوه يسمعني ، يسبقني متمتما بفرح هيا ، فيبدو أن جدك قد أتم صفقته ،
لنمضي صوب البيت ، يهمس ، ولم يزل بعد وجلا من جدي ، لم تقل لي ما اسمك ؟ محمد ،  وأنت ؟ اسمي نسيم !
نمر بزرافات من الخراف ، يحاذينا أحداها ، ماء ماء ، مبروك يانسيم صاحبك الجميل ،
لما لايحمل في يده خيرزانة كتلك التي يحملها الشحط الذي يسوقني ؟!
نفطس من الضحك ، أنا ونسيم  !

أشعر وكأنني صندوق الدنيا ،
فمن ورشة جدي في قلب السوق القديم ، عايشت الباعة والصناع والحرفيين وتعلمت وأتقنت الكثير من الحرف ،
ومن ألتصاقي بجدي عرفت المساجد العريقة ودروس قمم علماء الأزهر وعشقت سماع مشاهير القراء ،
ومن مجالس العائلة وأصدقائهم وأقاربهم أدمنت السياسة فقد كانوا قوميين ناصريين ،
ومن الراديو الذي لايهدأ والجرائد التي لاتنقطع ، وعمي الأزهري ، عالم اللغة العربية ، عرفت اللغة والثقافة والفن ،
لأصبح مميزا في وسط أقراني في الحي وفي المدرسة ،
لقدرتي المذهلة على الأضحاك والتقليد والحكي وشجاعة الخطابة
..  ونحت الكلمات  !

2- مدرستي   ..
مدرستي الأبتدائية التي أكاد لا أصدق أن هناك مدرسة في جمالها وأناقتها ونظافتها ،
تتألق كقصر صغير أشجاره باسقة وظلاله وارفة ،
حتى سورها منمق وجميل  !
تبدو وكأنما ألقيت من طائرة لتستقر وسط " غوطة "
غنية بأشجار الكافور والجازورينا التي تحتشد كجند شداد
تحيط بأشجار الياسمين والبرتقال والليمون والجوافة والتوت ،
يؤنس ذلك كله نخل باسقات طلعها نضيد  !
تستقبلك المدرسة بمدخل مهيب لمحراب علم ومحضن تربية ، درج رخامي أبيض يشف ،
حديقة أنيقة تتآلف فيها الورود والأزهار ،
مسرح فخم بستائر مخملية نبيذية ،
تتألق ، في ركن مميز منه ، آلة بيانو تبدو كتحفة فنية نادرة ،
قاعة للألات الموسيقية بكافة أنواعها ،
فناء فسيح يتزين ركن منه بمسجد صغير جميل ،
أحببت مدرستي وتعلقت بها ،
منذ أن أستقبلتني وأخذتني من يدي ..
.. لتعرفني على الورود والموسيقى   !
*         مدرستي تلك حقيقية ، بل ان كلماتي تتواضع أمام عظمتها ، فقد كانت من مفاخر ثورة يوليو 1952 ، ذهبت اليها سنة 1967

عود الى البدايات - 2

3- عطر الثامنة ..
أذا أردت قبسا من نور، يأتيك آناء الليل وأطراف النهار، يملؤ جوانحك ،
فيمدك بالأمل ويزينك بالعلم ويدفعك للعمل ، ويجنبك الزلل ، ويكفيك مؤونة دنياك وآخرتك فى اليوم والليلة ،
فيكفيك أن تنصت خاشعا الى تلاوة ماتيسر من القرآن فى السادسة صباحا أوالثامنة مساء
أحدهما أو كلاهما ، مع تقدمتيهما على الأذاعة المصرية ، وأسأل محبا شغوفا !
تنبهت مسامعي وأنتشى قلبى، وأنا بعد فى حجر جدي الحبيب ، رحمه الله ،
على أصوات كنوز علماء الأمة يقدمون التلاوة فى هذين التوقيتين المباركين ،
الشيخان الشرباصي والغزالي ود.البهى وسيدي الشيخ عبد الحليم محمود ، وغيرهم من أسيادي العلماء الأكابر،
وعشت لأهنأ اليوم بأسيادي الشيخ محمود محمد عمارة والشيخ محمد الراوي ،
حتى أضحت أحاديثهم فى تقدمة التلاوة من مكونات ثقافتي !
أما أسيادي من درر وكنوز القراء ، فقد كان جدي متيما بهم حتى حفظت عنه أسمائهم ومواعيد تلاوتهم !
أنتظر بشغف يوم الأثنين لأشنف آذاني بصوت شيخى المعجزة الربانية ، الشيخ محمد رفعت ،
والأربعاء الشيخ الرقيق الحنون محمد صديق المنشاوي ،
والجمعة عشقى الأكبر لرمز الفخامة والعظمة والجمال الشيخ مصطفى أسماعيل ، وهكذا ..
أدخلنى جدي بستان سماع التلاوة وارف الظلال طيب الثمار ،
بل وغرس فى قلبي حب المساجد والوله بمعمارها المتعبد المتبتل ،
وبزخارفها ونقوشها وخطوط الآيات على جدرانها الذاكرة المسبحة !
يصحبنى جدي الى مسجد سيدي أبو الفضل الوزيري ، ريحانة مدينة المحلة الكبرى ،
أدلف من بابه المهيب فكأني فى الجنة، يضمني المسجد بحنان كما يفعل جدي الحبيب !
أخطو على سندسه الأخضر متهيبا وجلا ، من روعة وبهاء ونورانية محرابه ، يخيل الى أننى لو دخلته لأحترقت !
سبحان الله ، حتى اليوم وبالرغم من مرور أكثر من أربعين عاما، كلما سنحت الفرصة وزرت المحلة ،
أمشي فوق سجاد مسجد سيدي أبو الفضل وجلا ، وأتهيب الأقتراب من محرابه !
أول مرة أرى فيها " الشيخ زغبي " مؤذن المسجد و عندليبه الصداح ، صديق جدي الحبيب ،
أقبل علينا من غرفته الأنيقة فى آخر المسجد ، طويلا رشيقا ، مهندما مهيبا ، منتصبا مشرئبا كأنه مأذنة تمشي على الأرض !
ينطلق صوته قويا ، وينساب حانيا ، عميقا فخيما ، خاشعا جميلا ، فتغشى السكينة كل من يسمعه ،
حتى كنيسة المحلة المحاذية للمسجد ، أخالها تخشع لجلال أذانه فتعلوها المهابة !
تعلمت من الشيخ زغبي مقامات الأذان ، بم يدخل وكيف يرتقي حتى يسكن وينتهي بختام من مسك ،
أخذت عنه التأنق والأنفة ، وعشقت الجمال ، جمال الصوت والصورة والموسيقى واللحن
هو ومسجد سيدي أبو الفضل وجدي الحبيب ومشايخ قراء الأذاعة رحمهم الله ورضى عنهم ،
أشعلوا جذوة حب الحق والخير والجمال فى قلبي ، فلم تخمد من بعدهم قط  !
آه ياجدي ، غمستنى فى عطرهم ورحت وتركتني وحيدا يتيما حائرا لايروي ظمأي فى زمن العولمة الزائفة شيئ !
سقيتني من كؤوس مساجد المحلة التى كانت مترعة بليال النور والأيمان والعلم والحب ،
كم رتعت فى فيحاء جامع أبي الفضل ، من سماع تلاوات السادة القمم العوالي من المقرئين
ودروس علم الحجج الشم الرواسي من العلماء العاملين !
أدلف بصحبة جدي ، من أول شارع أبي الفضل ، نلقى نظرة على مآذن سيدى أبو الحسن وسيدى عبد ربه ،
وكأنها أصابع سبابة موحدة ،
نيمن بجامع الروازقية فأبى بكر فالأمام ، والصياد وسيدي المنسوب ،
عن اليمين والشمائل سجدا لله ،
حتى نصل الى جنتي ، سيدي أبو الفضل ،
ثم نخرج منه لنستأنف المسير فى مسارات النور والجلال ،
حيث جامع المتولى الكبير والعجمي وولى الدين وسيدي عطاء الله والعباس ،
وسيدى المحجوب وعاصي والحنفي وآل طه وقادوس والباشا ،
والتوبة وجاويش وأولاد جبير ثم الغمري وسيدي الششتاوي ،
نتابع آيات قرآن الثامنة تترى من مذياع مقهى الى مذياع دكان ،
لايفوتنا منها شيئ حتى تنتهى التلاوة ،
ولاتنتهى الحلاوة ،
حلاوتها فى قلبي وعقلي ووجداني !!

4- لست أخوانجيا ولا طائفيا
            لست " أخوانجيا " ، بل أرفض تلك التسمية وأتحفظ عليها ، لمذاقها الأمني المر !
  فقط أؤمن بالفكرة الأسلامية الوسطية ، التي تلقيتها بداية من فكر الأمام الرائد المجدد محمد عبده ،
 مرورا بالشيخ محمد الغزالي ، وصولا الي الشيخ يوسف القرضاوي !
  مع حرصى على الأنفتاح على كل الأفكار والأتجاهات ، والنهل من نبع الفنون والقراءات
 فمكتبتى فيها سيد قطب ، والرافعي ، نجيب محفوظ ويحي حقي ، جلال أمين والمخزنجي ،
 خيري شلبي وابراهيم عبدالمجيد ، صنع الله ابراهيم وجارسيا ماركيز، تولستوي والغيطاني،
 جورج أورويل وبهاء طاهر ، نزار واقبال ، درويش والمتنبي ، جاهين ودنقل ،
 عادل حسين وجمال حمدان والبشري ، العوا وعمارة وعبدالوهاب المسيري ،
 حسن البنا والعقاد والمودودي ، وهكذا..
             لست طائفيا ولاعنصريا ، فقد رضعت لبان التسامح والعيش المشترك منذ صغرى ،
 حيث نشأت وترعرعت فى حى "سويقة الأقباط " ، بمسقط رأسي ، بمدينة " المحلة الكبرى" الحبيبة ، مدينة الأحرار التى صنعتنى !
 فكم لهوت صغيرا ورتعت فى ربوع مسجدي الحبيب الذى كنت أعتبره أبا حنونا لي ، مسجد سيدى أبو الفضل الوزيري ،
 والذى ينتصب شامخا قبالة كنيسة الأقباط الأرثوذكس الرئيسية بالمحلة الكبرى ، بسويقة الأقباط !
 وتعانقت فى عيني صور المعبدين ومنارتيهما ، سامقتان مشرئبتان ،
 تعلوان وترتفعان على كل ضغينة وشقاق ، وتترفعان على كل غل ونفاق ،
 وأمتزجت فى مسامعي أصوات تسابيح المسجد وتلاواته وأذانه ، مع أنغام ترانيم الكنيسة وأجراسها ،
 وتغذى وجدانى على أختلاط العابدين ، الغادين والرائحين ، متعاطفين متراحمين ، لاأثارة من شيئ فى الصدور !
            أشترى أدواتى المدرسية من العم "أسحق" وأخيه "بولس" ،
 والفلافل المحشية " المشطشطة " من العم "جبران" ،
 وأفخر جبنة قديمة من العم "وليم" ،
 والكلف والخردوات لآمى من العم "جورج" ،
 والدواء من أجزخانة "وصفي"  أو " د. فخر" ،
 ولاتستريح أمى، ولا الأسرة كلها ، من مشاكل أسنانها ،
 الا بين يدي الدكتور" بشارة " ، الطبيب الرائد الأنسان !
 وكل هذا فى كفة ، وأستاذي الحبيب وصديق عمرى ، الحنون الراقي الجميل ، الأستاذ "مجدى ولسون" ،
 الذى كان منارة حيينا ، كم حدب علينا صغارا ودللنا ، ودافع عن شقاوتنا ضد عواجيز الفرح !
 كانت أسعد أوقاته تلك التى يجلس فيها بجوارنا ، وكأنه حارسنا الأمين ، ولم يكن بيننا ولد مسيحى واحد !
 يستذكر لنا دروس الرياضيات ، و مس" ليلى" السيدة الفاضلة زوجته ، الأنيقة المحتشمة ، تساعدنا فى اللغة الأنجليزية !
 أذا كان فى الحى عزاء ، يهرع عمو "مجدي ولسون" لأنهاء ترتيبات الفراشة وتصريح الدفن ، ويشترى البن ،
 ويقف منتصبا فى صف أهل الميت يتلقى العزاء ، ويجلس منصتا للقرآن فى أدب وخشوع
 يستحى أن يشعل سيجارة ، ويكون آخر المنصرفين !
 وهكذا شأنه فى أفراح الوطن والحى وأتراحه ،
 لم نشعر يوما أنه مختلف عنا ،
 لا فى طعامه أو ثيابه ، ولا في سحنته أو لسانه ،
 ولاحتى فى أسماء أولاده وبناته ،  فلا غرو أن نشعر وكأنه أب لنا !

                                            تمر الأيام ،
 ولاتتقادم بداياتى ، بل يبقى طعمها فى قلبي ، وأنطباعاتها وشما فى سلوكى ،
 وميثاقها مكتوب على جدارن مخيلتي ، كنقوش فرعونية !
 فعلى مدار العمر كم صاحبت قناديل مضيئة من أخوانى المسيحيين ،
 من خيرة أبناء مصر ، علما وخلقا وعملا ،
 منزوعى التعصب والطائفية ،
 ممن أستعصوا على السقوط فى بئر التعصب السحيق !
                 كتبت تلك النبذة المختصرة ،
علها تسهم فى توضيح مدى الألم والحسرة التى تعترينى ،
 خوفا من انهيار الحلم الجميل الذى عشت عمري هانئا به ،
 مع أبناء وطني عبر السنين !
 لتهب رياح الطائفية السموم ،
 تشحن النفوس وتشق الصفوف وتخطف منى أخوانى ورفقاء صباى !