Search This Blog

Friday, March 29, 2013

مُنيِرة

أساتذتي الأجلاء ، السلام عليكم ..   
ها نحن اُولاء ، بأواخر القرن العشرين  ،   
وما زلنا نعاني إندفاعا عاطفيا متطرفا ، نحو السلبية والإختباء والعدمية ،
من شريحة تزداد إتساعا ، بين نساءنا و فتياتنا ..                             
فمن سخرية الأقدار ، أن المنظومة الجهنمية المُحكمة الراسخة ،                   
لقهر المرأة  وسحقها في بلادي ، صنعها ويسهر على حراستها ، 
ويتشدد في تنفيذها ، المرأة نفسها ..       
وبالرغم من أن قطاعا عريضا من المجتمع ، 
واقع  تحت تأثير موروث ثقافي سلبي ، من عادات وتقاليد ، 
ذات جذور نفسية ذكورية ، ما أنزل الله بها من سلطان ..             
إلا أنني لا أعفي شريحة ملموسة من بنات جنسي ، 
من المسئولية عما يتهددنا من ردة حضارية ، وإنتكاسة اجتماعية ،  
فقد توحدت الأنثى مع  سجنها ، وشاركت  فى بناءه مع  سجانها ، 
بحماس إنتحاري غريب .. بل لاأبالغ إذا قلت ،
أنها أضحت أكثر حماسا لتهميش دورها الذي خلقت له ،              
وبدلا من أن تتقاسم مع الرجل على قدم المساواة ،    
خلافة الله فى الأرض .. وإعمارها  بقيم الحق والخير والجمال ،                 
نجدها تنغمس بتدين شكلي  تغلب عليه العدمية ، 
تارة ، أو سفور منفلت متهور تغلب عليه التبعية ، تارة أخرى ، 
والوسط بينهما - بكل أسف – قليل  ..                      

إنني أتألم  بشدة لطاقة عظيمة تهدر ، وكيان وجودي أصيل يتصدع ،                  بتصدي المرأة لمهمة قمع المرأة ، لتتولى عبر الأجيال قهرها وحبسها .. 
وإرضاعها لبان إزدراء أنوثتها ، والخجل منها ،
بإعتبارها أداة  إمتاع  وتلذذ ، للسيد الرجل المتسلط ،              
وليست كيانا فاعلا في المجتمع ، يربي ويبني ..  
فالمرأة فى بلادي ، أيها الأساتذة الأجلاء ، 
تربي وليدها الذكر ، رجل المستقبل ، منذ طفولته ،  
على قمع أخته الأنثى  ، بتعويده التغول على شقيقاته ،  
وإشعاره  بأنه الذكر ، الذى يفعل ما يشاء ، ويقرر للإناث مايراه هو ، 
فهو كل شيئ ، أما هن  فلا شييء   .. وكأن النسوة أضحين ، 
يتوارثن مهمة القبض على البنت منذ مولدها ،                
والتكفل بوضع القيود على قلبها وعقلها ، وقمعها وزرع الخوف في وجدانها ،          وتغذيتها على الخوف والجبن تجاه الرجل ، 
بدلا من مشاركته الحياة بندية ومسئولية واحترام ..                             
فأيما تجربة تخوضها الأنثى أو حالة تعتريها ، من تعليم أوعمل ، 
حب أو زواج أو حتى عنوسة ، إنجاب أوعقم ، طلاق أو ترمل ..                           
فلا يحتشد للتدخل فى شأنها ، ومصادرة قرارها ،  وفرض الوصاية عليها ، 
وتعويقها وتعطيل إرادتها ، ومعاقبتها على ما حل بها ، 
إلا بنات جنسها من العجائز  ..                                                    
ولا أرى نفسي مبالغة إذا قلت ، أن تدحرجنا نحو منحدر العالم الثالث ،             
فى ميادين العلم والتقدم ، يعود في جزء كبير منه إلى هذه التقاليد الجاهلة ،             
التى أوردتنا ، وستظل توردنا ، الموارد ، طالما بقيت ، 
وبقي لها حارسات متعصبات متشددات ..              
وشكرا ..

تنطلق عاصفة من التصفيق ،                                  
إعجابا بكلمة السيدة منيرة الصوفي  ، أصغر خالاتي ، 
التى احتشد الأهل والأقارب والجيران والأصدقاء ، 
بمدرج قسم الإجتماع بكلية الآداب ،                         
يتقدمهم الدكتور أحمد أبوزهرة ، ليشهدوا مناقشة رسالتها للماجستير ،                               
والتى جعلت لها عنوانا هو : "حرية المرأة ، وحصار المجتمع " ..
أى مشوار مشته خالتى منيرة ، قبل أن تصل إلى هذه المحطة ؟!                          
أى معاناة ذاقت ؟! أى آلام تجرعت ؟! أى معارك خاضت ؟!                            
أجد نفسي سارحا ، منسحبا من ضجيج المكان ، نازلا إلى قبو ذاكرتي ،
لأتذكر خالتي منيرة ..                      
تلك الوردة الندية الفاتنة التى تكبرني بعامين ، فقد حملتها أمى على كتفها وربتها ،
بعد أن أنجبتها جدتي على كبر ، ما جعل بيننا صداقة جميلة منذ الصغر .. 
تلك البيضاء الجميلة التى صدعت رأس جدي ، رحمه الله ، بطوابير خُطّابها ، 
ولم تكن أتمت خمسة عشرة سنة بعد ، وهى تتمنع وترفض ، 
قاطعة على نفسها عهدا، ألا تفكر فى الإرتباط قبل أن تتم تعليمها الجامعي ، 
أو أن  يظهر الفارس الذى تحلم به ..                                          
حتى تخرج هى من الثانوية العامة إلى كلية الآداب ،                         
ويخرج جدي من الدنيا وتتبعه جدتي بعد سبعة أشهر ، 
وتخرج هى عن عهدها  الذى قطعته على نفسها ،               
تحت تأثير سحر شباب وفتوة ووسامة  ناصر ، المرشد بقناة السويس ،
الذى أعجب بها ، عندما رآها ببورسعيد ، عند زيارتها لخالتي علية .. 
ليتزوجا فى أقل من شهرين ، على وعد قطعه  ناصر لأبى وأمى وخالاتي ، 
عفاف وعلية ، أن  يُحضر منيرة لتأدية إمتحاناتها ، حتى تتخرج فى كليتها ..                                   
يوفي ناصر بوعده أول مرة ، وفى الثانية تعود منيرة، بعد إنقضاء عدتها ، 
يبرق بياضها الشاهق ، من  فستانها الأسود ، حاملة ثمرة حبهما ، حنان ،      
بعد وفاة ناصر فى ريعان شبابه ، إثر حادث أليم أثناء عمله بالقناة ..
من تكعيبة العنب التى تستقبل الداخل إلى بيتنا ، الذى يقبع بنهاية خان الهلباوي ،  بمواجهة بيت جدي لأمي ، القديم المغلق ، حيث أجلس دائما للمذاكرة ، 
يتسلل إلى سمعي صوت سيارة ، أمد عنقي من فتحة التكعيبة الأشبه بالمشربية ،       لأجدها سيارة عاشور الفيل زوج خالتى الكبرى عفاف ، 
المرسيدس الضخمة تسد الخان ..أسارع إلى الخارج متحيرا، 
 بين الترحيب بخالتي منيرة  وحمل طفلتها حنانوبين مساعدة سلامة ،
سائق عاشور الفيل ، فى إدخال ما أحضرت من شنط وكراتين وأمتعة ،            
توحى بأنها لاتنوى العودة ..  يتسلل عاشور الفيل ، تاجر الموبيليا ، 
العجوز المتصابي البالغ الثراء ، من بين من تزاحموا من الخان كله ،  
فى لمح البصر ، تتقدمهم أمى فى لهفة ، للأخذ بخاطر منيرة ، والإحتفاء بها ، 
ليلحق هو بأبي على مقهى البورصة القريب ، حتى يعودا معا على العشاء ..        
أجلس على مقربة من أمي ، الغارقة لآذانها فى إحتضان منيرة وتدليل إبنتها ،           تبدي دهشة وإنبهارا ، وكأنها غير مصدقة ، بعودة أختها الصغيرة ،  
لتعيش معها ، بعد حروب ضروس ، خاضها عاشور الفيل ، 
ليبقيها بجواره .. من آن لآخر ، تنبعث من حيث تجلسان ، 
موجات من الفرح لقدوم منيرة ، ومن الحزن على ميلة بختها ، 
والضحك على كيدها لعدوها اللدود ، عاشور الفيل ، 
والبكاء على زوجها ، الذى اختطفه الموت ، وهو فى ريعان شبابه ،   
والصمت ، حدادا عليه ،والشرود ، خوفا وقلقا عليها ..                       
تنبعث روائح طعام العشاء ، تشوش عليها سحابة ، من دخان سجائر أبى ، 
وزوج خالتي عاشور الفيل ، تسبقهما على السلالم .. 
تناديني أمى لتقديم العشاء للرجال بمفردهما ، وللسائق بالخارج ، 
وتكتفى بتحية ترحيب باردة لعاشور الفيل ،لتلحق بإختها منيرة بالداخل ..  
تفضل ياحاج عاشور ، مد إيدك  ، فضلة خيرك ..              
وكان إيه لزوم التعب دا كله بس يامعلم ، دا حتى مفيش وقت ، 
يادوب ألحق أرجع دمياط ، سايب أشغالي عطلانة هناك ..
ياسيدي ، لسه بدرى ، نتعشى ونشرب الشاي ، ونتآنس بيك شوية ..
الله يآنسك يامعلم  ، إكرامك لأخوك عاشور ، إنك تلين دماغ منيرة ، 
ترجع تعيش معانا ، بعد ما جربت حظها وشافت نصيبها ،
عايزة إيه من الدنيا تانى ؟! بدل ما الناس تاكل وشنا ، 
وأهو منها تربي بنتها ومنها تراعى أختها المريضة  ..   
بالك ، آخر زيارة للدكتور حسونة السبع ، شدد علينا إنها تلزم سريرها ، 
قلبها خلاص بيشطب ، وياسيدي إذا كان على يومين ،                               
تقضيهم منيرة مع أختها الست عنايات ، وماله ، أختها ومربياها ، 
تشبع منها شوية ، وترد على بيتها دوغري ،
اعمل معروف يامعلم ، بلاش فضايح ..
كل لقمتك  انت بس ، وخليها على الله ..
بعد أشواط  من الفاكهة  والشاى والسجاير ،               
غار عاشور الفيل بسيارته المرسيدس ،                    
مشيعا بدعوات أمي وخالتي ، بأن يحتضن بها وابور زلط .. 
ليبدى أبى دهشته : ليه كدا بس حرام ، والسواق الغلبان ذنبه إيه ؟!        
تغمز له أمي ، فيسكت .. تنسحب منيرة بطفلتها لتناما ، 
ويجتمع أبواي بالصالون المطل على التكعيبة ليسهرا ،                       
يدفعنى فضولي للترحيب بتشويشهما على تركيزي ، 
فالمذاكرة لن تطير ، المهم نفهم إيه العبارة الأول ..         
لم يكد أبي يفتح موضوع رغبة عاشور الفيل ، فى عودة خالتي للإقامة ببيته ، 
حتى انطلقت أمى كخرطوم المطافي ، رغم أننى لم أستطع إلتقاط سوى بعض الرذاذ ،
من رشاش الأهوال المندفع ، إلا أنها كانت كحمم النار التى تحرق الأفئدة ،            
بدت بالنسبة لى صدمة زلزلت كياني كله ..                                
مثل أن عاشور الفيل ، التاجر الثرى ، العجوز الدني ، عديم الدين والضمير ، 
وزوج خالتنا الكبرى عفاف ، المريضة بالقلب منذ خمس وثلاثين سنة ، 
والذى يلبس أمام أبي مسوح الوقار والتقوى ، عينه من خالتي منيرة ، 
منذ أن كانت طفلة .. وأنه لم يتورع أن يسلك كل الحيل القذرة للتحرش بها ، 
كلما كانت تذهب لزيارة أختها الكبرى بدمياط ، وأنه كاد يموت بالسكتة ، 
بعد أن ظل يشرب ويحشش ، طوال ليلة زفافها على المرحوم ناصر ..    
وبعد ما رأته منيرة من إبتهاجه ، بموت زوجها ناصر ،  
والذى لم يبذل أى جهد لإخفائه ، وإجتراؤه الوضيع ، 
على  تكرار محاولات التحرش بها ودم زوجها لم يجف ، 
وعدتها منه وحدادها عليه ، لم ينقضيا ..                      
وما تهامس به البعض من هذيانه  وهو سكران ،   
برغبته فى التوقف عن علاج زوجته ،                    
حتى يتوقف قلبها التالف وتموت ، ليظفر بحلم عمره ، منيرة ، 
البارعة الجمال ، المهووس بها ..                           
يبدو أن إستياء أمى وخجلها ، جعلاها تتوقف عن مواصلة الحديث ،                    وتستغرق بالإستغفار والإستعاذة والحوقلة ..                                    
فيه إيه  تاني ياعنايات ، وحدي الله ، أعصابي تعبت ..
تصدق يامؤمن أن منيرة لا تستبعد إحتمال ، أن يكون الذئب العجوز عاشور الفيل ، 
قد دفع جوالا من الأموال أوالحشيش ، أحدهما أو كلاهما ، لأحد كلابه بالقناة ، ليجهزوا على  ناصر ، فى ربكة العمل ..
معقول ؟! لا ، لازم نسافر لعاشور ونعرف شغلنا معاه ..                    
تنهى أمى هذا الكابوس المخيف الأسود ، وهى لم تزل تبكى ، طالبة من أبي ،   
أن يقوما فيسجدا لله شكرا ، أن منيرة وصلت سالمة ، 
بعد طول مراوغة  وخداع  لهذا المريض المهووس ،
لتفلت من براثته .. مشددة  على أبي أن يلزم الصمت تماما ، 
وألا يُشعر منيرة بشيئ ، حفاظا على مشاعرها ،
وأن يكفى على الخبر ماجورا ، تجنبا لجنان عاشور الفيل ، 
وحفاظا على صحة الخالة المريضة المسكينة عفاف ، ورفقا بقلبها التالف المنهك ..   ارتميت على فراشي مطحونا بين شقي رحى ، أحدهما من الحزن ، 
والآخر من الإرهاق ، متوقعا ألا أرى خالتي منيرة قبل شهر على الأقل ، 
حتى تلتقط أنفاسها وتتجاوز مراراتها ، وتبدأ حياتها من جديد ، 
لكنها تأبى إلا أن  تفاجئنى دائما ، بكل جديد ومذهل فى تكوينها الجميل ، 
المفعم بالحياة .. فلم يكد النهار يشقشق حتى وجد منيرة قد سبقته ، 
إلى بيت أبيها المغلق ، تاركة طفلتها لأمي ، 
تبدو كمن باتت ليلتها على فراش من نار وشوك ، 
من نار ذكرى ليال هائئة ذاقتها مع ناصر ، ولم تدم ، 
ومن شوك حساسيتها الزائدة وخجلها ، من التواجد بالبيت ، 
رغم إتساعه ، فى حضور أبي ..بخفة ونشاط ، ولهفة وشوق ، 
نحو بيت أبيها ، وكأنها ترتمي بحضنه ، 
وكأن قصة الأمس التى آلمتنا لم تكن قصتها ، 
لتجد أم وحيد الغسالة وبناتها الثلاثة ، شادية وفايزة ووردة ، 
منتصبات كالعساكر بإنتظارها ، 
وقد تزودن بكل مايلزم من أدوات التنظيف والغسيل ، 
ليبدأ الخبط والرزع ، والتنفيض والكنس ..                                    
فى طريقي إلى الكلية ، أمرعليها بالفطور والشاى ، 
أبدو كمن تحطمت عظامه ، من التعب والسهر ،             
وقبل أن أبدي ذهولي ، من سرعة نفخ الروح ، بالبيت القديم الخامد .. 
تغلبها دموعها القريبة وهى تحكى لى ، عن  تأثرها الشديد ، 
عندما رأت الجروح الغائرة ، التى تكاد تكشف عن الأوردة  والعظام ، 
برسغي أم وحيد الغسالة ، من أثر قيامها بغسل الملابس بالبيوت ، 
ودعكها على يديها ، بالبوتاس الحارق .. أحاول تهدئتها ، فأنا لا أحتمل بكائها ،
من بين دموعها ، تستطرد .. تصور هذه المسكينة  الممزقة الأوردة ،                      تضطر ، هى وبناتها الثلاثة ، أن يخدمن فى البيوت ، 
هى تغسل على يديها أكواما من الملابس ، المغلية بالبوتاس ، 
من البكور حتى الغروب ، لتعود بجنيهات معدودة ، ويدان تنزفان دما ..   
والبنات الرقيقات البريئات ، اللائي سمتهن على أسماء أشهر المغنيات ،
تفاؤلا وتيمنا بالفرح ، ينظفن ويمسحن البلاط ، 
لأن زوجها أقعدته حادثة قطار ، وولدها ، الوحيد على البنات ، 
أفسده التدليل ، ومن بعده المخدرات  ..                                                
أسبوع كامل لم تكل أو تمل ، تبدو مستغرقة  تماما ، 
وكأنها تسابق الزمن لبناء خندق عميق ، 
بينها وبين تجربة سريعة عاصفة مضت ،   
وكأنها تقيم سدا منيعا بينها وبين عاشور الفيل ، 
بكل مايمثله من هوس مرضي ، وإنحطاط وشذوذ ..        
وكأنها تبني حصنا منيعا ليحميها ، 
من مجتمع دأب على التلذذ بتعذيب الأرملة والمطلقة ، 
لاسيما إن كانت صغيرة وجميلة مثلها ،                                            
وكأنها تصنع الفلك الذى تحلم بأن تجمع فيه ، 
كل أنثى معذبة مظلومة مضطهدة مكلومة ،                     
لتعيد إليها إحترامها وثقتها بنفسها ..                                       
أسبوع كامل ، حرصت فيه منيرة ، أن تُبقى أم وحيد وبناتها معها ليل نهار ، 
حتى تفكر فى عمل كريم لهن ، تحت رعايتها ، فلا يعدن للعذاب والمرمطة ، 
فى بيوت ظاهرها الطيبة والعشم ، وباطنها من قبله القسوة والشح ، 
وربما التحرش والإستغلال ..                             
قطعت أنفاسي ، فى مشاوير للكلية والبوستة والبنك ،           
شراء كتب ، تجديد عفش ، تخلص من كراكيب ،            
فى اللف والدوران وراء النقاشين والسباكين ، وكافة أنواع الصنايعية والعمال ،  دوختني ورائها من الدهشة والحيرة ، ماذا تريد ؟! ولماذا هى متعجلة ؟! 
لماذا هى كثيرة التجاهل للهمسات والهمهمات ، والنظرات والتعليقات والتساؤلات ،    قليلة الكلام عما تريد تحقيقه من أهداف ، تتصرف بسرعة وصمت وكبرياء ، 
كأنها تهرب من ذكريات ومرارات ، لاتريد لها أن تلتصق بها ..
فتلبسها نظارة سوداء ، وتؤثر على نظرتها للحياة ،                             
تستعجل العودة لحالتها البكر ، وكأن تجربتها المتسرعة العاصفة ، 
كانت حلما استيقظت منه ، 
لا أدرى أهى امرأة أم جيش ؟! أنثى أم دولة ؟!                                             
كيف هداها  تفكيرها لأن تختار مشروعا بسيطا وشعبيا ، تقيمه على سطح البيت ، 
تحيي به قديما ، وتُعين معوزا ، بعمل نوع من الحلوى يسمى فطيرة الكنافة ، 
تكاد تكون انقرضت ، بعد أن كانت لها شنة ورنة ، فى زمن الجدات ..  
لتحتوى فيه أم وحيد وبناتها ، وتجعل منه بوتقة تصهر فيها نساء وبنات الحي ، 
فتعلم الأميات منهن ، وتنهض بوعى الغافلات ، وتداوى جراح المكلومات ، 
وتختبئ من عاشور الفيل ، الذى مهما بلغت سفالاته وألاعيبه ،                             فلن يجرؤ على الإقتراب من بيت ، تعيش فيه وحدها ، 
وإلا فتك به أبي ، ومن وراءه أهل الخان .. 
فوق السطوح وقفت تشرف بنفسها ، على إفراغ  عريشة الخزين من كراكيبها ، 
ليبني لها الحاج سنطاوي البنا فى الوسط ، دائرة إسطوانية كبيرة من الطوب .. 
ويكسوها بطبقة من  الطين ، تعلوها صينية نحاسية وسيعة لامعة ..   
سرعان ماتتوافد النسوة  ، يدخلن بلوازم الفطيرة ، 
من سمن وسكر ولبن ، دقيق ومكسرات وزبيب ،            
يتحلقن حول أم وحيد حيث تجلس ، يملؤها الحماس و الزهو  ، 
تدور بكوز نظيف ذى ثقوب ، ينساب منها العجين ،   
كـأشعة الشمس على سطح الصينية المتوهج ،              
لتجمعها خيوطا رشيقة من الكنافة ، التى ستخلطها بالسكر والزبيب ، 
والمكسرات والقشطة ، ثم تحشو بها مابين فطيرتين ، 
ستفردهما بإتساع الصينية ، ليشهد العالم ميلاد أجمل وأشهى فطيرة كنافة ،   
تشاركت أم وحيد الجديدة ، وبناتها الرقيقات ، تحت إشراف الجميلة منيرة ، 
فى صنعها على نار الحطب الهادئة ، وتقطيعها إلى مربعات ساخنة ، 
كخدود فاتنة يذهب توردها بالألباب .. لتنصرف بها النسوة ، 
يمنين أنفسهن بليلة هانئة دافئة ، وتبقى منيرة وأم وحيد والبنات ، 
ليتشاغلن بما بقي من شئون البيت وإعداد العشاء  ، 
تبقى من عليها الدور لتبيت مع منيرة ،                        
وتغادر الباقيات راضيات ..
تمضى الأيام ، وتدوس منيرة بحذاء التجاهل والإحتقار ، 
فوق وجه عاشور الفيل ، وصلفه وساديته ، وهوسه المرضي وخسته وسفالته ، 
فلم تغنه عشرات المشاوير ، ذهابا وإيابا ، ولا الحيل المحبوكة ، 
ولا الأقاويل المكذوبة ، فى لفت إنتباهها ، فضلا عن الوصول إليها بأى شكل ، 
بعدما نجحت فى وقت قياسي ، بذكائها الهادئ الصامت ، 
أن  تستقوى بالضعف النسائي الذى جمعته حولها ،    
أن تذوب فى محيطها العملي الصغير الذى شكلته ، فتنهمك فيه وتحتمي به ..   
إلا أنه بموت خالتى عفاف ، بعد جراحة يائسة أجريت بقلبها ، 
داعب الأمل خيال الأرمل المتصابي ، ونشط من جديد ، 
ليجدد محاولات الوصول إلى منيرة ، والتشويش عليها ، 
لكنها واصلت سحقه بكل هدوء وبرود ،                    
بإزدرائه وإنكار وجوده ، حتى قطعت دابره تماما ، 
بإحباط كافة محاولاته للوصول إليها ،                 
لتحل لعنة إجرامه ، وتحرشه بها ومطاردته لها ،  
ومحاولته النيل من سمعتها ، بعد يأسه منها ،                     
لتدمر تجارته وتسود وجهه ، وتهد كيانه ، 
وتلقى به فى بئر الشرب والتحشيش ، مذءوما مدحورا ..

تنهى السنتين المتبقيتين لها فى الكلية ، بحصولها على الليسانس بتفوق ، 
ليتصاعد طموحها فى استكمال الدراسات العليا ، بتشجيع من د.أحمد أبو زهرة ..
فتكثف من قراءاتها ، وتضاعف من إنغماسها فى محيطها النسائي ،             
بوجهها البشوش الجميل الذى يشع ضياءا ، وبروحها المتفائلة ، 
وحركتها الرشيقة النشيطة ، تعلم وتحاضر ، وتنشر الوعي ، 
وتحل مشكلات ، وتقيل عثرات ، وتدعم وتؤازر ..
هل أنا وحدى الذى يرصد حرصها الشديد ، على سد شبابيك الذكريات السلبية .. 
يقظتها التامة لئلا تتسرب ولو قطرة من صنبور رغبتها ، 
ليبقى وعاء الإشتهاء لديها فارغا ، 
محكم الغلق ، حتى تحدد هى وحدها ، متى يملأ ، ومن يملأه ؟!                  
هل أنا وحدى من يندهش من قدرتها المذهلة ، 
على أن تبقى أصابعها فى أذنيها ليل نهار ، 
للحيلولة دون التأثر بعروض زواج تنهال كالمطر ، 
بتلميحات حميمية ساخنة ، تشعل الخيال وتثير الكوامن ، 
تفيض بها ثرثرات النسوة الشابعات الراويات الرائقات ؟!
هل أنا وحدى الذى يراها تسبل جفنيها ، 
لتحجب عن عينيها أى صورة مثيرة أو حوار مكشوف ، 
أو قبلة ساخنة عابرة ، فى أحد الأفلام  ؟!                     
ألهذه الدرجة يمكن للمرأة ، لو أرادت ، أن تضع نفسها فى درجة أعلى من جمالها ،
أن تكون أقوى من غريزتها ، أن تحطم أصفاد الإحتياج ،                                     
أن تتحرر من أوضار الشهوة ، أن تتخطى سياج الجسد ،   
أن تذهل عن كلأ الرغبة ، وماء اللذة ، أن تتألق تصوفا وزهدا ، 
لتصبح لوحة بإتساع الكون ، ملونة بألوان الكرامة والكبرياء ؟!                          
لوحة يكون الجسد مجرد مكون من مكوناتها ، فلا يطغى ولا يستذل ولا يستعبد .. 
أنشودة ، يكون الجسد فيها آلة موسيقية ، تتبادل العزف وتشارك فى إبداع اللحن ..
متى يكون الجسد وسيلة للتواصل الإنساني المتبادل ، 
القائم على الندية والإحترام والتفاهم ، من أجل التكاثر والإعمار والإستمرار ، 
وليس نهبا للدونية والمازوخية والإنكسار ..                                       
لشد ما أتلهف على نتيجة تلك المعركة الضارية ، 
والتحدى الوجودي الذى تخوضه خالتي منيرة مع الأيام ،             
لابد لمعركتها من نهاية  ، فمتى ستنهيها ؟!                        
لابد لزهرة شبابها وجمالها من رى ، فمن ياترى سيرويها ؟!
لم تدم لهفتى طويلا ، بعد أن بدأ اسم د. احمد ابو زهرة ،  
يتردد أكثر فأكثر على لسانها ، محاطا بقدر من التبجيل والإحترام ،  
بل والإعجاب لحد الإنبهار ، وبدء ظهور كتبه بين يديها ، 
وترقب مواعيد محاضراته بعينيها ..
أحمد ابو زهرة ، ابن سوق النحاسين  ، 
الذى عرف من يومه بالإستقامة ومتانة الخلق ،     
والرجولة والتفوق ، والفصاحة والتأنق ،                                
والذى لم يلبث بعد عودته من بعثة لنيل الدكتوراة ، 
وتعيينه فى قسم اللغة الإنجليزية بكلية الآداب ،           
أن زج به فى المعتقل لعامين إبان أحداث سبتمبر ،  
التى اعتقل فيها السادات عددا كبيرا من معارضيه ..  
قررت أن استجمع شجاعتي وأسالها ، حول كل ما يشغلني من شأنها .. 
صباح النور ، خالتى الجميلة ، أم حنان ..
صباح الخير ، أيها الشاب المكار البكاش ..                          
ماذا بدر منى يا سيدتي الجميلة ، كى تصفيني بالمكر ؟!
عيناك اللامعتان دائما ، تفضحانك ، علامات الإستفاهم بادية عليهما ..
يعني أسال ؟!                                                      
فلتؤجل أسئلتك لوقت لاحق ، فقد تأخرنا ..
سؤال واحد مسافة الطريق ، لأنى لن أطيق ..
مسرعة  كعادتها ، تفضل ، سؤال واحد فقط ..
أبادرها ، متوقعا أن تندهش وتغضب ..                    
ما رأيك بالدكتور أحمد أبو زهرة ؟!                               
بكلمة واحدة ، حاسمة قاطعة ..
رجل !
أو لسنا رجالا ؟! والمرحوم ناصر .. ألم يكن رجلا ؟!
لم أقل هذا ، ولكن د.أحمد ، رجل من طراز خاص ،            
راح إلى أوروبا وجاء ، حافظا لسانه من الإلتواء ، 
عاد ولون سوق النحاسين فى جبهته ، محتفظا بصلابته وأصالته ، 
وقف إلى جوار أبيه المسن ، حتى تزوجت أخواته ، وتعلم اخوته ،                        
كما وقف إلى جوار مصر فى كل موقف ، مهما كلفه ..
تواصل الحديث عنه بلهفة ودون توقف ، وكأنها ترتوي من ظمأ ..  
كم بهرني جمعه  بين التواضع ، وقوة الشخصية ، بين التبسط ، 
والتانق ، التدين ، وخفة الظل ،                              
بين المثقف الأكاديمي ، والرجل الشعبي العادي ،   
يأسرنى حديثه العذب المتدفق ، ثقافته الموسوعية ..
أقاطعها متشجعا .. وماذا عن المرحوم ناصر ؟!
ناصر ! الله يرحمه .. كم كان نبيلا كريما ، شهما ، طيب القلب ،                          
لكنه كان اختيار الأنوثة الجامحة الرعناء ، التى تغيب العقل ، 
كى لايعكر صفو النزوة ،تخدر الروح ، كى لاتعطل عنفوان الجسد ،  
فترى السعادة فى المظهر والمال ،                              
فى الشباب الواعد ، والوسامة ، والعضلات المفتولة ..                                       
أما الآن ، فالإختيار سيكون لإمرأة مثقفة ناضجة ، 
تحررت من سكرة الرغبة الضاغطة ، ومن مرارة  الخسة الصادمة ، 
وانتهت لتوها ، من ترميم بنيان شخصيتها ،  
من تقوية دعائم ثقافتها ، من ضبط توازن إحتياجاتها ورغباتها ..                          لتختار رجولة النضج والعقل والفكر ، الثقافة والأصالة ، 
العطاء والتضحية والأمانة والجمال ، جمال الرجولة ، 
وحضورها الطاغي ، وعطرها الأخاذ ، وحديثها الآسر ..
كل هذا رأيتيه فى د. أحمد أبو زهرة ؟!
وأكثر منه ..
ضاحكا بخبث .. يبدو أننا اقتربنا من محطة الوصول ، 
وسنسمع أخبارا مفرحة قريبا ..
تقرصني بيدي .. 
امشي ياشقي ، لما نخلص مناقشة الرسالة الأول .. 
لم يعد لديها وقتا لغير ابنتها ودراستها ، ومشروعها الواعد ، 
لرعاية وتعليم وتوعية نساء وبنات الحي ،                         
ولم تبقى لنا وقتا لأى شيئ آخر ،  بعد أن شغلت أمى معها فى مشاكل النسوة ، 
لاسيما الأرامل والمطلقات والعوانس ، وشغلت أبى فى جمع التبرعات ، 
من أهل الخير فى الخان وخارجه ، لدعم ما تكتشف بين المترددات عليها ، 
من حالات إنسانية تحتاج لدعم خفي يحفظ كرامتهن ، 
أو لتوفير فرص عمل لأزواجهن وأبنائهن ، بدلا من المناكفة والإدمان .. 
لتخصنى أنا بالنصيب الأكبر من اللف ورائها ، فى مشاوير الكلية وشراء الكتب ، 
ومايلزمها من مصالح وإحتياجات ، إستعداد للزواج ، 
لأكتشف على يديها عالما سحريا ،                                  
لم أكن أعرف عنه شيئا ، اسمه :                                         
عالم الأنثى الجميلة المقاتلة !