Search This Blog

Tuesday, November 29, 2011

العَصّارة - الحلقة السابعة

لم يبق مع حمادة الا نسمة صباح السادس من أكتوبر الفاترة ،
 تزاحمها الشمس ، لتزيدها كسلا وضجرا ،
وعوكل الذي مل الأنتظار الطويل بباب الجامع ، فتسكع يلتمس رزقه !
حتى اذا لمح حمادة ، طار يتبعه ،
انتبهت أم حمادة على صوته ، يردد أذكاره الصباحية ،
فيحدث طنينا على السلم النائم ، يتردد صداه مبهما ،
 ليبدد صمت صباح يوم أجازة كسول خامل ،
السلام عليكم ، صباح الخير ياماما ،
صباح النور ياحبيبي ، كنت فين دا كله ،
 أبدا الشيخ زغبي مسك فيا ، بلغته سلامك وبيدعيلك ،
 ينفع كده ، تفضل من غير نوم من امبارح ، بس لو أعرف ايه اللي شاغلك ،
 والكتب اللي هتضيع فلوسك عليها دي ، احنا يابني مش أولى بكل قرش ،
خليها على الله ،
خش يا ضنايا أرتاح لك شوية ، علشان تروح المحل ،
 تعمل لك كام حتة شغل ، نسدد بقية مصاريف أخواتك ،
هو عمك هيحاسبك ، أيام الدراسة ، يومية ولا بالحتة ،
بالحتة طبعا ، أنا أشطر واحد في الشغل دلوقتي ،
وهيديك في الحته كام ؟
انا مش هتحاسب زي الغريب ، دا عمي برضه وأفضاله عليا ،
صحيح مهما كان دا برضه عمك ، أصيل ياحمادة ، رباية المعلم جميل النادي الله برحمه ،
بس متهيأ لي ، مش أقل من نص جنيه في الحته ، نفس أجرة توفيق ،
وماله يابني ، نعمة ، كنا فين وبقينا فين ، رضا ، الحمد لله ،
 قلبي وربي راضيين عنك يا حمادة يابني ،
قوم ارتاح شوية ، وحسن هيجيب الفطار والطلبات لينا ولنينة ،
ياريت متنسوش فطار عوكل !

السلام عليكم ، ازيك ياعمي ،
 ازيك ياحمادة ، ازاي ماما واخواتك ..
اتأخرت ليه ؟! مش النهاردة أجازة ؟!
يادوب صليت الظهر وجيت ،
احنا عايزين نشوف شغلنا ، بلاش دروشة ،
 كلنا بنصلي ، بس بنشوف شغلنا ،
ان شاء الله ،
شغلك فوق عند توفيق ، تخلصه وتحاسب على مصنعيتك ، وتتكل على الله ،
الشغل كله لازم يخلص النهاردة ،
حاضر ،
حلوة بلادي السمرة بلادي ، الحرة بلادي ..
ماتعلي الراديو يا حمادة ، خلينا نسمع هيقولوا ايه ،
هيقولوا ايه ياتوفيق ؟!
 هيغنوا لنصر ملحقناش ندوق طعمه ، ولفخ سموه افتراءا ، سلام ،
ما أخطر وأخبث ُطُعمه ،
 وبطولة حشدونا ليها ومنعونا نكملها ، علشان نروح في سكة ياعالم بطول ليلها !
ماتكبرهاش ياحمادة ، خليها على الله ، مالك شايل طاجن ستك اليومين دول ،
على فين ؟ .. عمه متسائلا ،
هصلي العصر ،
ما تغبش ، فوت على البيت اتغدى ، طنط عايزة تشوفك ،
السلام عليكم ،
هيييه ، ايهاب ونورا ، مرحبان ،
مين يا ولاد ، حمادة ابن عمي  ياماما ،
تعال يا حبيبي ، أنت فين ، ماما عاملة ايه واخواتك ،
الحمد لله ،
ايه ، ما وحشكش أكل طنط ، دا أنا عاملالك البامية الي بتحبها ، باللحمة الضاني ،
تعيشي يا طنط ، خيركم مغرقني ،
هنتغدى مع حمادة ياماما ، يتقافزان ،
عمكم منعم اتصل وقال هفوت أتغدى ،
ايه ياحمادة مش بتيجي لي تلاعبنا ، وتقولنا فوازير ونكت ،
الدراسة بدأت ، والسنة دي ، ثانوية عامة ،
هيه ، بتحافظوا على الصلاة ؟!
أنا بصلي ، نورا اللي بتكسل ، ياسلام ياغلس ، أنا بصلي أحسن منك ،
ياولاد ، مع ان الصلاة من أهم الحاجات في الإسلام ، 
الا ان الإسلام فيه حاجات مهمة كتير ،
زي ايه ؟!
حب العلم و التفوق ، والقوة ، والدفاع عن الوطن ،
يعني يبقى دمنا تقيل ، ومفيش لعب وهزار تاني ،
أنا قولت كده ،
ماهو انت شكلك مش هتلاعبنا تاني ،
طب ازاي ،
تعلوا أقلدلكم شفشق ، شفيق جلال ،
هذا ومن المقرر أن يحضر السيد الرئيس احتفالات عيد الفن الثالث ، و المقامة غدا ..
بس وطوا الراديو ده ، أو اقفلوه
يحضر ايهاب ملابس الفقرة الفنية ، كما عوده حمادة ،
 احدى جلاليب والده المخططة ، ومعها طاقية بحافة ، من نفس قماش الجلابية ،
خسسسيس قال للأصيل تعال عندنا خداااام ، تاكل وتيشرب ...
افتحوا لعمكم منعم ياولاد .. يوه ، مالناش دعوة هتكمل برضه ،
يقبل ضخما مهولا ، شاغلا نصف الحجرة
ازيك ياعمي ، كل سنة وانت طيب ، يابطل
على أيه ؟!
ذكرى الأنتصار
ياسيدي ، دول كانوا يومين ، عملنا اللي علينا ، والباقي على .. السلام
عاش عاش ، عاش ، عاش اللي قال ..
اقفل الراديو يا ايهاب ، انا مصدع
دي أغاني الحرب ياعمو منعم ،
حمادة يغنيهالك ، حافظها كلها ،
الغداء يامنعم ، ياللا ياحمادة ، 

خلصت شغلك ،
 الحمد لله ،
كام حتة ؟
 تلاتاشر ،
وريني كده، عال عال ، الله ينور ، تمرت فيك الرباية ، ربنا يهديك ،
حسابك ستة جنيه ونص ، ونص جنيه من عندي ، سبعة جنيه أهم ،
 يالا اتوكل على الله ، سلم على ماما ، وخد بالك من مذاكرتك ،
ربنا يخليك يا عمي ،
الا قولي ، هامسا ، بتوتر ، بتشوف بابا ؟!
يطرق صامتا ، يغادر ممسكا بنقوده ، قابضا على دموعه ،  الحمد لله
لاحول ولاقوة الا بالله ، عمه متأثرا
يمضي حمادة مسرعا ليلحق بصلاة العشاء بجامع الرشاد ،
 ليصلي بصحبة الأستاذ عبد الحفيظ المنياوي ، معشما نفسه أن يكون من الأخوان فيوصله اليهم ،
بعد أن قرر مقابلته منفردا دون عادل الزيني ، تحسبا لأية مفاجآت ، وليتكلم معه على راحته ،
يسلك نفس الدرب الذي كم سلكه منذ كان طفلا صغيرا نحيلا ،
 تستقوي عليه الشمس ، ويقرصه الجوع والعطش ،
 ويعكر صفوه القلق على أمه ، والخوف من عمه ،
 ويضنيه الشوق لأبيه ..
 كل العذاب هان عليه ، كل التعب زال منه ، الا الشوق لأبيه !
 يزيد من سرعته هربا من هياج الذكرى ، التى تأبى أن تتعلق بتلابيبه ،
كتعلق طفل بأمه ،
 يود لو ينسف كل مقاهي الأرض ، بعد أن يحطم مابها من شيشة وطاولة ودمينو ،
علّ لاجئيها يعودون الى فلذات أكبادهم ،
 يوما وراء يوم ، يتفهم محنة أبيه ، لا لا ، ليست المقهى ،
 ما المقهى الا مهرب وملاذ ، مهرب من المسئولية ، وملاذ بالصحبة المسلية !
يسقط محنته على حال أمته ، الذي يشغله ويستغرق تفكيره ، و يصبغ حديثه مع كل من يلقاه ،
فيرى محنة أمته في غياب ولي الأمر المسئول الرشيد ، الذي يكد من أجل أمنها ووحدتها ، ورخائها ورفعتها !
آه لو يجمع الناس ، في صعيد واحد ، ليبوح لهم بما في قلبه الذى صار جمرة من نار ،
 آه لويبكون غياب ولي أمر أمتهم الراشد كما أبكى غياب أبي ،
 لو يكافحون لمساعدة أمتهم في غيابه كما اساعد أنا أمي ،
 لو يسلكون كل طريق لأعادته لقيادة سفينهم ،
 كما مزقت أحذيتي في الدروب سعيا لأعادة أبي ..
الله أكبر ..
الله ، منذ زمن لم أصلي في جامع الرشاد ، ما كل هذا العدد من الشباب الجميل ،
معظمهم ملتحون ، يتناثرون في المسجد خافت الأضاءة كنجوم تتألق ،
اقيمت الصلاة ، فاصطفوا في خشوع ، كأسنان المشط ،
قضيت الصلاة ، فتحلقوا حول الأستاذ عبد الحفيظ المنياوي ،
 الذي بدا في جلبابه الرخيص ، ضئيلا 
نحيلا ، جاحظ العينين ، ذو لحية رمادية شعثة !
أخذ يصافح الشباب المتحلق حوله ، الواحد تلو الآخر ، بقوة ، محتضنا اياه بافراط !
ليصعد الجميع الى حيث غرفته المشرعة الأبواب ، ببيت هزيل قبالة المسجد ،
يلحق بهم حمادة ، دون أن يلفت نظر أحد ،
 يتكومون في غرفة كئيبة كالحة ، على جدرانها كتب كأكوام ضباب ،
 تعلوها الأتربة ، لاتميز منها اسما ولا رسما ،
 يحتل ربع مساحتها سريرحديدي أعجف ، يبدو كهارب من أحد معسكرات الجيش ،
 اتخذه حمادة متكئا ليطل منه على تلك الكومة من الشباب .. الورود ،
 ينصتون الى الأستاذ ، الذي لم يعر حمادة أي اهتمام ،
بينما يتناثر من فمه حديثا باردا مفككا ،
 كعربة خشبية فارغة متهالكة تتدحرج على طريق وعرة ، فتعلو وتهبط  ، دون فائدة !
 حاول حمادة أن يتهم نفسه ، فمن المؤكد لم يرق بعد الى مستوى هذا الأستاذ الكبير ،
 قطع اللهاث أنفاسه ، وراء ما يتناثر من شدقي الرجل ، عله يقبض على جملة مفيدة ،
لكن هيهات ، وكأنه ينصت لكلمات مبعثرة من نائم يهذي بلغو ، لاينبني عليه عمل ،
أصل العقاد .. لأن طه حسين ، لا .. سيد قطب دا موضوع تاني ..
انت النهاردة لما تبص لعبد الرحمن بدوي هتلاقي .. تر تر تر ..
بدا حمادة وكأن قطبي رحى ، أحدهما من ذهول والآخر خيبة أمل ،
يطحنان رأسه المرهق أصلا ..
يالا مع السلامة ، في حفظ الله ..
افاق ليجد النجوم الشابة قد أفلت ،
  ليتحسر على ضياعهم في أحضان هذا المعانق الأكذوبة ،
 آه لو يتعرف عليهم حمادة جميعا ، والله لخاض بهم البحر ، لا مناص الآن من المواجهة مع الأستاذ المعانق،
أهلا وسهلا ، أخيرا انتبه لوجود كائن حي ، يجلس بطرف سريره الأعجف مثله ،
أهلا بحضرتك يا أستاذنا ،
أنا حمادة ، محمد حسين النادي ، جدي يبقى الحاج جميل النادي ،
الهيبة الكبارة ،ألف رحمة تنزل عليه ، يتمتم مطرقا ، يهرش لحيته الشعثة ،
خير ؟!
أبدا ، هو حضرتك تعرف الأخوان المسلمين ؟!
مين ؟! الأخوان ! أنت في سنة كام يابني ؟!
فى ثانوية عامة ،
طيب يابني ، مالك أنت ومال الأخوان ؟!
 انت عايز تخدم الأسلام ، اتفضل الطريق واضحة ، العلم ياابني ،
 أجتهد في دراستك ، وتفوق ، ومن موقعك المرموق اللي هتوصل له ، باذن الله ، تخدم الأسلام زي ما أنت عايز !
شكرا يا أستاذنا ، السلام عليكم .. يفجئه بها حمادة وهو يتدحرج على السلم المتهالك،
 مخافة أن يتورط في عناقه المبالغ فيه ،
يطلق زفرة طويلة ، الحمد لله ، يا الهي ..
 كم في واقعنا من أوهام !
 يالهفي على شباب ، كالرياحين ، يقعون ضحية أمثال هذا الأعجف الغامض ، غير المريح ، المعانق !

انت فين ياحمادة من الصبح ، أمه مدلية رأسها من البلكونة ، أنا ملطوعة من المغربية ، دماغي تجيب وتودي ،
معلش ياماما ، كنت في مشوار ، اصبري عليا مرة لما اطلع فوق ،
مش تقول يا ضنايا ، فكرتك رحت لأبوك ،
يوم الجمعة ان شاء الله ، أجيبه يتغدى معانا ،
ربنا يجبر بخاطرك ، 
اتفضلي ياماما ،
ايه دول ؟!
سبعة جنيه ، انتاج النهاردة ،
ماشاء الله ، ربنا يبارك لي فيك ، ويهديك ،
لو خليتي جنيه بس معايا ، أجيب كتاب ، يبقى كتر خيرك ،
والمرة الجاية هزود الأنتاج شوية ، علشان أجيبلك دكر بط ،
تلحقي تظغتيه علشان تعمليه لبابا في العيد الكبير ، أنت عارفة بيحب الرقاق و البط ،
ربنا يهدي الحال يابني ، الأيام بتجري ، والعيد فاضله شهر ويهل ،
شوف ياحمادة ، أنت ابني وأنا عجناك وخبزاك ، وغلاوة أمك عندك ،
 الكتب اللي عايز تشتريها وتسهر فيها ليلاتي دي ،
 والمواضيع اللي شغلاك ومغيراك اليومين دول ،
 خير لينا وليك ، ولا ايه الحكاية ، ريح قلب أمك الله يريح قلبك ،
 الشيخ زغبي بيقول لأخوك حسن في درس التحفيظ ، أنا خايف على حمادة !
 من ايه ياضنايا ، اعمل معروف ، كفاية عليا الضغط والسكر ،

حتى الجيران حبايبنا بيقولوا حمادة اتغير وما عدتش بيلاغي زي الأول ،
وسلوى طلعت تعيط وتقول حمادة شكله هيبقى متطرف ومش هيكلمني تاني !
بالعكس ياماما ، أنا بعامل جيراننا كويس وكمان سلوى ، بس احنا كبرنا وبقى فيه حدود برضه ،
أما الكتب فهي علشان أتثقف واتعلم ، ويبقي لي قيمة ، دا أنا كل ما أسمع في الراديو ، برنامج زيارة لمكتبة فلان ،
أتجنن وأحلم يكون عندي مكتبة كبيرة ، وأكون زي الشخصيات دي ، ليا قيمة ، مش دا يشرفك برضه ،
كل حاجة منك بتشرفني ياحمادة ، سامحني ياروحي على قسوتي عليك ،
كنت خايفة عليك ،
حد يقول كده برضه يابطة ياغالية ، دا أنا أفديكي بروحي يا ماما ،
وبعدين أنا مش شاغلني الا كل خير ، مش انتي بتحبي النبي و الأسلام ، وبتسمعي القرآن ؟! الحمد لله ، اللهم صلي عليك يانبي ، وهو أنا مصبرني ومبرد ناري الا القرآن ، ياحمادة ، صبح وليل بسمعه وعايشة معاه ،
أهو ياست الكل نفسي أشارك مع الصالحين من المسلمين ، علشان نرجع للأسلام والقرآن وسنة النبي العدنان ، المكانة والصدارة والمجد ، فيه شرف أعظم من كده ،
بس ياابني يا حبيبي ، الظلمة يبهدلوك ، زي ما شوفنا قبل كده ،
ياستي  " قل لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا " التوبة– 51
هقولك ايه ، انت حد يسلك معاك ، ولا حد يقدر يحوشك عن حاجة في دماغك ،
روح ربنا يحفظك برضاي عنك ،
فين حسن ؟ بيجيب عيش لسندوتشات المدرسة ، بيدوخني على ما يقضي مشوار ، ماكانش طلع زيك ،
سلام عليكم ، أهلا أبوعلي ، يابختك ياعم ، جمعة وسبت أجازة ، زمانك شبعت لعب ،
شكلنا مش هيبقالنا من سته أكتوبر ، الا الأجازات ،
هو أنا بتهنا على لعب ياحمادة ، من مشاوير ماما ونينة ،
معلش يابطل ، قولي ايه أخبارنا مع الصلاة والحفظ ،
لا ماتخافش ، الشيخ زغبي قاعد لي هو كمان ، كل شوية قوم صلي ، أحفظ ، سمع ..
وتقولي أجازة ، ياعم  .. مشوحا بيده ،
طب يالا ، لمعت جزمتك ، وكويت هدومك ، وحضرتك حاجتك ..
 الحمد لله ،
 وريني واجباتك أراجعهالك ،
ياماما ،
أيوا يا حمادة ،
 مش تنادي على البنات ، يطلعوا من عند سلوى ، مش وراهم مدرسة الصبح ،
حاضر،
على فكرة ياماما ، مش يصح برضه ، سهام ونادية ، يغطوا شعرهم ،
 ويلبسوا جيبات طويلة ، بدري ياحمادة ، لسه بيدلعوا ،
ولو ، أهو نعودهم سنة سنة يعني ، ولا رأيك ايه ؟
 ان شاء الله ياحبيبي .

يهمس الشيخ زغبي في أذن حمادة ، بصوته الحنون كعادته ، الصلاة خير من النوم ..
لينهض ملبيا ، الحمد لله الذي أحيانا بعد ما أماتنا ، واليه النشور ..

ماء الوضوء الذي تتسلل اليه برودة أكتوبر ، ينعش روحه ،
 يهبط بهدوء ، لينهض في اثره عوكل ،
 قضيت الصلاة ، يشير للشيخ زغبي مودعا للأستعداد للمدرسة ، في حفظ الله يا حبيبي ، رادا تحيته
في طريق العودة الي البيت ، يلقاه عادل فيبادره ..
ما فوتش عليا يعني نروح المشوار اللي اتفقنا عليه امبارح ،
الوقت فات ولقيت نفسي جنب بيته ، قلت أنجز ،
وبعدين .. ولا حاجة ، أوهام ،
يعني ايه ، دا راجل داعية ،
بعدين أفهمك ، نتقابل في المدرسة ..
على صوت تقدمة قرآن السادسة ، يعود الي البيت ، يتبعه عوكل ،
كسرولة الفول من عمي دسوقي ، وعاية اللبن من أم زاهر ،
تستقبله رائحة الفلافل الساخنة ، أعظم هدية صباحية من أمه ،
 عبير الشبت والبقدونس على السلاطة ،
حبات الفول رقصت ، كأنها لوز ، فرحا بالسمن البلدي ،
 تصاعد بخار الشاي بالحليب المنتظر في البلكونة  ،
 أيات بينات من سورة يونس ، يتلوها علينا القارئ الشيخ عبد العظيم زاهر ..
يرفع حسن المصلية بعد أن صلى بأخواته البنات ،
 يبدو جميلا نظيفا ، ممشط الشعر ، بريئ الوجه ، متأنق ..
باب الحجرة مغلق على البنات ، ليخرجن منه ..
 بلوزة بيضاء زاهية ، جيبة كحلية رتبت كسراتها وكويت بعناية ،
 جورب أبيض كولون ، حذاء بناتي أسود لامع محندق ،
 ضفائر سوداء فاحمة، محكمة لامعة ،
 الكل في البلكونة .. يتحلق حول حمادة بزيه المدرسي العسكري كقائد ،
 لتتشاغل الأم في مناولة طبق لكل واحد .. سندوتش فلافل ، ريحته تهبل ،
 خففت سخونته السلاطة والطحينة ،
 وآخر الفول اللوز بالسمن البلدي ، مع كوب شاي بالحليب ،
 ولفافة في حقيبته ليأكلها  بالفسحة !
يتوكلون على الله ، يتقدمهم حمادة ،
 مودعين أمهم .. المغرورقة عيناها دوما بالدموع ..
بالله عليك ياحسين ، فيه حد في الدنيا يفوته المنظر ده ؟!
 جاتك نيلة وانت راجل جبلة وغبي ،
 كرهتك ، كرهتك ..
 لتبقى بالبيت هي .. ودموعها !

Wednesday, November 23, 2011

العَصّارة - الحلقة السادسة

بعد أيام ، يأخذ كل بيت دوره ، في تأبين شهدائه ،
 ويأخذ كل حي دوره ، في الأحتفاء بأبطاله ،
 الذين يعودون منتصبي القامة ، مرفوعي الرأس ،
 تتناثر عليهم التحايا ،
 وتلاحقهم نظرات أنبهار ..
 جعلت حمادة يستحضر ، المشهد المزري المهين ،
 الذي طالما أذل قلبه الصغير ، وسحق روحه البكر ،
ابان النكسة ، وهو لم يزل بعد في السادسة من عمره ،
عقب كل جمعة ، في حر يونيو الثقيل  ، يغص الشارع الرئيسي ،
بسيارات الجيش المنهزمة ، الكئيبة المتهالكة ، تنوء بحملها من الجثث ،
 يتبعها جنود تعساء ، صفر الوجوه ، في ملابس كاكية رثة ،
 يحملون محفات ملوثة بدماء مسودة ، تعلوها بقايا من فروا بأرواحهم ،
 من هول الصدمة وخيبة الأمل ،
 تشيعهم أبواق السيارات ، حاملة النعوش ، القابضة المرعبة ،
 ويغطيهم غبار تمرغ الثكالى في التراب ،
 اللائي يكاد صراخهن وعويلهن ، يوقظ الشهداء من نومتهم ،
 ينظر الجرحى من فوق محفاتهم بعيون كليلة حسيرة ،
 الى حشود حزينة ، مغبرة الوجوه ، منكسة الرؤوس ،
 ترافق موكبهم البائس الحزين !

يتيه حمادة فخرا ، بينما يسير متدليا من ذراع عمه منعم ،
 بطل الصاعقة الضخم المهول ،
 كسنجاب ، يتعلق بأسد ،
 يلازمه من بيت الي بيت ، ومن صحبة الى أخرى ،
 يجلس كمارد ، ليحكي أقاصيص النصر ،
 بين تكبير واعجاب ، ومصمصة شفاه !

يهل على حمادة صيف آخر ..
 ينعم فيه بهدنة ، تبدو غير مستقرة ، مع الأيام ،
 بتواجد أبيه بين ظهرانيهم ، وانتظامه الى حد ما في عمله ،
 برشات العطر التي ينتعش بها قلبه ، من حضن جده ،
 بازدياد اعتماد عمه عليه ، وحرصه على عدم أهانته ،
 لألمامه  بشئون المحل والمهنة ، والورش والزبائن ،
 يزين ذلك كله شعور جديد ولذيذ يجتاحه ،
 بعد أن غلظ صوته ، وهل هلال شاربه ، وانتصب عوده ،
 و تخطى النظرة الطفولية للبنات من حوله ،
 ليعيش حالة ذهنية مثيرة ،
 تنشغل بالمعنى الجديد للحب ، وتبحث عنه ،
حالة .. تؤججها في وجدانه رائعة العندليب الجديدة ، فاتت جنبنا !

لكن لأنه ولد ، بلا وقت ، وحرم من ترف الفراغ ،
 فلم يجد وقتا يمارس فيه هذا الشعور اللذيذ الذي يحلم به ،
 وتدفعه أغنيات العندليب ، ليبحث عنه ،
 أقصى ما يتبقى له ، بعد اللهاث في مشاوير أمه وجدته .. والمحل ،
 بالكاد يكفي لتسبيلة عين ، وربما تنهيدة ،
 ليردعه النوم من الأسترسال !

سرعان ما ينهي حمادة مرحلته الأعدادية ،
 بنهاية أيام جده الحبيب ، واغلاق أبواب جنته ،
 وفتح باب شعوره ، باليتم من بعده ،
 ونهاية سيرة المعركة ، لتفتح سيرة السلام ،
 ونهاية ايام فخر ، عمه البطل منعم ،
 ليسقط في بئر الأكتئاب !

تنتشر سحب العودة الي الدين في انحاء مصر ،
 لتمطر ،
 بخروج الأخوان من المعتقلات ،
 ليسابقوا الزمن للأنتشار ، ورص الصفوف لتعويض ما فات ،
وغسل آثار الأشتراكية العلمانية ، من وقع أقدام الناصرية ،
ليجدوا أنفسهم في منازلة مع السادات ، ومشروعه التطبيعي مع الصهاينة ،
يعود الهوان الي بيت حمادة ،
 دافعا الباب بقدمه الغليظة ،
 ليطفئ الأنوار،
 و يفرش الصمت ،
 ويلف رأس أم حمادة ،
مرة أخرى ، في الصداع ،
ليهرب منه حمادة ، الى المسجد ،
 بصحبة عادل الزيني ، الذي استشيخ !

يبتعد مشوار حمادة قليلا ..
 الي مدرسته الثانوية العسكرية ، في زمن السلام !
لتتجرأ الشمس على لسعه من جديد ، بعد غياب جده ،
 وتزحزح أبيه رويدا رويدا ،
 مبتعدا عن البيت ، مقتربا من المقهى !

يذهب حمادة متباطئا الي المدرسة ،
 ويذهب السادات مسرعا الى القدس ،
لتعتري حمادة ، حالة من الحزن الشفيف ، والشجن العميق ،
وهو على مشارف الثانوية العامة ،
تدفعه لتلمس رائحة جده في المساجد ،
و استحضار دفء حجره ، في الأستماع الي القرآن ،
وتعلمه وحفظه وتلاوته ،

كغريب بمحطة قطار مصر الرئيسية الضخمة ،
 يتقافز حمادة بين أرصفة الحقبة التي سينطلق منها ،
 باحثا بين قطارات الأتجاه الأسلامي ، عما يتوافق مع ميوله وفكره ،
 ليتعلق به ، ممسكا بيده ، زهوره التي اقتطفها :
.. زهرة من بستان تدين جده السمح ، الذي غمسه في رياض المساجد ،
 وأجلسه عند أقدام علماء الأزهر الأكابر ،
 وسكب في وجدانه حب التنزيل ، وعود أذنيه حلاوة الترتيل ،
.. وزهرة من بستان عمه ، عالم اللغة العربية ،
 الذي عرفه على الأمام محمد عبده، ورشيد رضا ،
 والأمام شلتوت ، والشيخ الشرباصي ، والشيخ الغزالي ،
 و شغفه ببرنامج لغتنا الجميلة
( حتى صار الأستماع اليه طقسا أساسيا من طقوس حياته )
 مما عمق لديه حب اللغة العربية ،
 وأكسبه سليقة مبهرة في سلامة النطق ،
 و موهبة ساحرة في حلاوة التعبير،
وزهور عدة ..
.. من حبه للموسيقى والفنون ،
.. ومن متابعته الجيدة للأحداث المحلية والعالمية ، والمامه بها ،
من خلال التصاقه بالراديو طوال اليوم ، واطلاعه على الجرائد ،
.. من حياته الودودة السمحة المنفتحة ، مع جيرانه وأصدقائه على مختلف دياناتهم ،
 وأخيرا ،
..  من مكابدته المبكرة للحياة ،
التي علمته الصبر ، وسعة الحيلة في ابتكار الحلول ،
و خبرة التعامل مع الناس ، والفراسة في فهمهم  ، والقدرة على أقناعهم !

سيطر على حمادة شعور بأنه كبر ، ولم يعد صغيرا ،
 وأن الوقت قد حان ، ليخرج من مثلث الأعتصار الضيق
 ( بيتهم الذي هجره الأب ، وبيت جدته الذي توفي عنه الجد ، ومحل عمه الذي سيضيع فيه العمر ) ،
 هذا المثلث الذي طالما أضجره و أنهكه ،
 كي يشارك في عمل شيئ ، من أجل دينه وأمته ،
 بعد أن رأى سوق الأنتصار ينفض ، ليقام سوق الأنبطاح !

ضاقت مساحات مزاحه و ضحكه ، لتتسع مساحات تأمله وصمته ،
 تقدم المكث بالمسجد ، على العمل بالمحل ،
 طمس ترتيل القرآن ، طرب الأغاني ،
 وأضحت الصلاة ، خير من النوم !
بدا عمه ، والعاملين بالمحل ، أكثر احتراما للوقار الذي غشيه ،
وللحزن الذي اجتاح عينيه ،
وصارت أمه لاتراه الا راكعا ساجدا ، أو مرتلا باكيا ، أو حزينا شاردا !
  يفتقده أصدقاؤه ، لألتصاقه بعادل الزيني ، الذي يمر عليه بالغدو والآصال ،
 لصلاة الجماعة وجلسات التجويد ، ودروس العلم ،

تغرق أم حمادة في كنبتها الأسطمبولي ، سارحة في دنياها العاقة ،
 يتنازعها شعور بالراحة ،
 لولوج ساعدها الأيمن ، حمادة ، الى أنبوب التدين المعقم ، الذي يضمن لها دوام استقامته وبره ،
 وشعور بالخوف والقلق ،
 من أن تشغله المساجد عن العمل ، فيهتز بنيانهم الذي لايحتمل نسمة هواء تمر بجواره !
 بينما هي دائخة ، في دوامة الحيرة والوحدة والصمت ،
 يفزعها جرس الباب ، لتطل برأسها متثاقلة ، مين ؟!
السلام عليكم ، ازيك يا أمي ، فين الأخ حمادة ؟!
يا حمادة ، يا حمادة ،
كلم الشيخ عادل !
السلام عليكم ، كيف حالك يا أخي ؟! عادل مصافحا ومعانقا بحرارة !
الحمد لله .. حمادة ، بهدوء
عايزين نلحق محاضرة الشيخ عبد الهادي ، في أنصار السنة ،
تاني ! حمادة متعجبا ، محتجا .. يستطرد ،
يا أخي ، قعدتني ساعتين المرة الماضية ، لما صدعت ، ولم أفهم جملة مفيدة ،
حتى الكتب المجانية ، بتاع السعودية ، الي وزعوها علينا ،
 كتب غريبة ،  عن العقيدة الواسطية ،
 ومحمد بن عبد الوهاب ، وحاجات كلها مش مهمة بالنسبة لي !
لاحول ولاقوة الا بالله ، ياأخي اتق الله ، عادل غاضبا ..
 مش تفهم عقيدة التوحيد الأول ، وتتعرف على مزالق الشرك ، لتجتنبها ،
 أمال تبقى مسلم ازاي ؟!
أنا مسلم وموحد بالله ، واعرفه جيدا ، والحمد لله ،
 ما قرأته في العقيدة ، للشيخ شلتوت ، والشيخ الغزالي ،
 أراه كافيا لتغطية هذا الجانب ، و لاحاجة لي بهؤلاء الذين يضيعون وقتي !
ووقتك الثمين ده ، محتاجه فى ايه ، ان شاء الله ، يا أخ حمادة ؟! عادل متهكما ،
نفسي أفهم الشباب ، تصور جميل وشامل للأسلام ،
 الأسلام اللي بيحترم الأنسان .. أي كان ، وييسر له كافة سبل السعادة ،
 بدفعه الى أن يكون دوما في المقدمة ، في كافة المجالات ،
 في العلم وفى الثقافة ، في الفن وفى السياسة ،
 في الحرب وفي الصناعة ، في الرياضة وفى التجارة ،
 نفسي أمتنا  تعيش حياتها متماسكة ، موحدة ، على أحدث النظم ،
 وتسخر كل طاقاتها ، من أجل دفع الشباب ، للثقافة والعلم ، والرياضة والفن ،
 ولكن بصبغة اسلامية حضارية منفتحة ، سمحة معتدلة ،
 يعتز بها كل أبنائها ، حتى غير المسلمين منهم ،  لننعم بالقوة والأمن والرفاهية !
طب ازاي ؟! عادل مندهشا ،
أمتنا دلوقتي بتتعرض لهجمة شرسة ، بتهدد وجودها نفسه ،
 والأولى اننا نوحد المسلمين ، على الحد الأدنى من الثوابت ،
 و نحشد الجهود الدعوية الدينية ، للحث على الأخوة والوحدة الوطنية ،
 والعمل والأبداع في كل المجالات ، حتى لايزداد البون اتساعا بيننا وبين أعداءنا ،
 ونصحو يوما على ضباع تتخطفنا ، واحنا قاعدين نهدر الوقت في الكلام عن العقيدة الواسطية !
آدي آخرة الراديو ، والجرايد ، وبتوع الأزهر اللي بتسمع لهم ،
 قال مش مهم عقيدة واسطية قال ، أستغفر ربنا يا أخي .. عادل ، غاضبا ،
اللي انته بتقوله ده ، كلام الأخوان ! ..

يتدخل الأخ فؤاد ، فجأة ، بعدما حضرالجزء الأخير من كلام حمادة ،
بيقولوا ايه الأخوان ؟! حمادة متسائلا ..
أشتري كتب حسن البنا ، وانت تعرف  ..  يقولها فؤاد مودعا ،
دفع حمادة ، خمسة عشرة قرشا ، ليحصل على كتيب صغير ،
 يحوي احدى رسائل حسن البنا ،
 بعدما توقف طويلا ، ليفهم مغزى عنوانه :
" رسالة المؤتمر الخامس "
قضى الليل كله ، مبهورا بالكلمات ، حتى حفظ منها ، مقاطع كاملة :
( ألجموا نزوات العواطف ، بنظرات العقول
 وأنيروا أشعة العقول ، بلهب العواطف
 وألزموا الخيال ، صدق الحقيقة والواقع
 واكتشفوا الحقائق ، في أضواء الخيال الزاهية البراقة
  ولا تميلوا كل الميل ، فتذروها كالمعلقة
 ولا تصادموا نواميس الكون ، فإنها غلابة
  ولكن غالبوها ، واستخدموها ، وحولوا تيارها
 واستعينوا ببعضها علي بعض
  وترقبوا ساعة النصر، وما هي منكم ببعيد ) !
لقد وجد ضالته ، ولم يبقى الا أن يجد تلك الجماعة العظيمة ،
 التي تحدث عنها هذا المجدد الفذ ، لينال شرف اللحاق بها ،
 وخدمة أمته ودينه من خلالها ، ولكن كيف ؟!

أنت لسه صاحي ، يا حمادة ؟! الحق نام لك ساعة ، قبل الفجر ،
معلش ياماما ، صابحين أجازة ، بمناسبة سته أكتوبر ، حمادة بصوت متهدج ،
نامي أنتي ، أنا هصلي ركعتين وأنزل للشيخ زغبي في الجامع ،
النبي حبيبك ، تسلم عليه ، وتقول له يدعى لنا ياحمادة ، ويدعي لأبوك بالهداية ،
ربنا يهدي الجميع ، يقولها حمادة ، مشمرا للوضوء ، ناظرا بتأثر لأخوته وهم نيام ،
ما أن يفتح حماده ، باب شقتهم في الدور الثالث ،
 حتى يهب كلبه العجوز عوكل واقفا ، ينفض غبار النوم عن جسده المترهل ،
 ليصعد السلالم ببطء ، حتى يلتقي صديقة المقرب حمادة في منتصفها ،
 يكاد يطير فرحا ببزوغه مع الفجر ،
 يرفع رأسه ناظرا اليه بحنان ، تتسارع هزات ذيله ،
  حتى اذا سلك حماده طريقه الى الجامع ، تبعه عوكل في خشوع ،

يدلف حمادة من باب الجامع ، مقدما رجله اليمنى ، متمتما بما حفظه من أدعية لدخول المسجد ..
بسم الله ، اللهم افتح لي أبواب رحمتك ..
 يسوقه قلبه الى موضع سجود جده ، في ركن قصي على يمين المنبر ،
 يصلي ركعتا تحية المسجد ، ويتنسم عطر روح جده ،
 ينتبه الي كف لينة حنون ، تمسح على رأسه ،
 ينتصب قائما بحب وتأدب  .. أهلا مولانا ، منكبا على يديه ، يهم بتقبيلها ،
 لينزعها الشيخ برفق ، مقبلا رأسه ، ايه النور ده ، راسك سخنة يا حبيبي ،
يطرق صامتا ، أبدا شوية فكر ،
مش أنت بس اللي يتيم بعد جدك ، يا حمادة ، وأنا كمان والله ،
أروح أرفع الأذان ، وبعد الصلاة ، نشوف مالك يا غالي ،
الله أكبر ، يصدح بها الشيخ زغبي ، ليهيج الذكرى ،
 شعر حمادة ، وكأن نسيم صباح السادس من أكتوبر ( 1978) ، المسبح من شباك المسجد المجاور له ،
 يرددها بشجن ، لشعوره بفتور ، يتزايد عاما بعد عام ، في استقباله ، بعد أن تعود الحفاوة ! 
تنساب دموع الفتى ، ويشهق ، الهي .. أسترددت جدي ، فصبرت ،
 وتخلى أبي فكابدت ، وتوجعت أمي فبررت وواسيت ،
 اللهم بحق محبتي لجنابك ، ووقوفي ببابك ،
 وشغفي بكتابك ، والتزامي درب محمد نبيك و حبيبك ،
شرفني بشرف خدمة أمتي وديني ، ونور لي الطريق ، نور لي الطريق يارب ،
السلام عليكم ، صليت سنة الفجر ، يا أخ حمادة ، عادل الزيني ، هامسا ،
مكفكفا دمعه ، مجتهدا في اخفاءه ، حالا ، أصليها ،
تقام الصلاة ، ليتألق الشيخ زغبي ، بتلاوته الغضة الطرية :
" وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ ،
 وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ ،
 وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ " الأنعام:59 ..
 ليكمل حمادة نشيجه ونحيبه ، وكأنما يغتسل بدموعه من وعثاء سفر ،
ليتهيئ لسفر جديد !
مالك يا حبيبي ، خيرا ، تعالى ، قم مع حبيبك الشيخ زغبي ، نقعد في المكتب شوية ،
صلى على النبي أمال ، ووحد الله ، دا أنت مؤمن وطول عمرك راجل ،
يمسح دموعه بكمه ، اللهم صلي على كامل النور ،
الفاتحة على روح جدك الحاج جميل النادي ، عمود الجامع ده ،
 وان ربنا يهدي أبوك ، ويستر عليكم بحق جاه محمد ،
وأمة محمد يا شيخ زغبي ، مين يقرالها الفاتحة ،
لا اله الا الله ، أمة محمد لها رب ، ياحمادة يابني ،
واحنا يا شيخ زغبي ، نقعد نتفرج ، على نصرنا بيتخنق ،
 وأرضنا بتتحرق ، أطفالنا بتندبح ، وشرعنا بيترفض ، و ..

عارف ، والله عارف ، وآدي ذكرى النصر جاية ،
 ومش لاقية ريق حلو من القلب ، زي الأول ، الحب كله دلوقتي في السلام ،
بالك ياحمادة ، طب والملك القدوس السلام ، ربنا بريئ من السلام ده ، ده استسلالالالالالام ،
بس ايه بايدينا نعمله يا حمادة يا ابني ؟!
نعمل كتير يا مولانا ، زي ما النبي ، تعب وجاهد ،
 وعمل أمة أصبحت من أعظم الأمم ، من العدم والجهل والشرك والضلال ،
اللهم صلي عليك يانبي ،
اسمع يا شيخ زغبي ، أنا من النهاردة هادور على الأخوان المسلمين ، وامشي معاهم ،
ايه ايه ، بتقول الأخوان ؟! لاحول ولاقوة الا بالله ،
 وانت ايش عرفك سكتهم يا حمادة ، وانت من المدرسة للبيت للمحل ؟!
أنا اللي قريت عنهم ، وعجبني كلام الشيخ حسن البنا ، المرشد المؤسس بتاعهم ،
ياسنة سوخة يا حمادة ، دا أنت طول عمرك ناصح وعاقل ، الأخوان حتة واحدة !
جري ايه يا مولانا ، هو أنا قلت المافيا ولا حاجة ؟!
ياابني ، يا ضنايا ، ربنا يهديك وينزل على قلبك السكينة ،
الأخوان ، يعني سجن وبهدلة ، طب والنبي ، دا أمك تموت فيها ،
فينك يامعلم جميل يا نادي ، تيجي تشوف صاحبك ، اللي هيضيع نفسه ويضيعنا معاه ،
انت بتبالغ يا شيخ زغبي ،

ببالغ ، أمال ، أصلك ما شوفتش اللي كان جري للأستاذ سراج وأخته الست اصرار ،
 وكانوا من خيرة الناس الكمل ، على ايد الظلمة ، بهدلوهم يا ولداه ،
اسمع يا حمادة ، عايز ياابني تخدم الدين ، أتوكل على الله وأجتهد واطلع من الأوائل ،
 والجامع أهه ، جدك اللي شال حجارته على كتافه ،
 اعمل هنا اللي أنت عايزه ،
 تحفيظ قرآن ، محو أمية ، ساعد الغلابة ،
 أمال ، دا حتى ربنا بيقول في كتابه العزيز :
 " وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ "  سورة البقرة – 195 .
قوم يا حبيبي ، قوم اتوكل على الله واسمع الكلام ، ربنا يهديك ،
يا حمادة ، مش هنمشي ، عادل الزيني ، متبرما ،
مستنيك من ساعتها ، مش عارف ايه مزاجك ، تتساير مع الراجل ده ؟!
دا شيخنا وحبيبنا ، وبلبل الجامع الصداح ،
صداح ؟! فيه شيخ معمم ، من غير لحية ، وتقولي صداح ، ياللا بينا ،
عايزين نروح نزور الأستاذ عبد الحفيظ المنياوي ،
اشمعنى ،
راجل داعية وملتحي ،واسمع ان عنده مكتبة كبيرة ، وبيعمل لقاءات أسبوعية للشباب ،
دا صحيح ، لكن احنا مالنا ،
يا أخي ، مش يمكن يطلع أخوان ، أو حتى يدلني عليهم ،
ليه ، هو انت قررت تمشي معاهم ، من كتاب قريته ،
بالضبط ، الكتاب كله أفكار عظيمة ، تتوافق مع طموحاتي ،

ماشي ، نجرب ، هطاوعك علشان بحبك بس ، لكن أنا مليش دعوة !
 خلاص لما نتقابل ، السلام عليكم ،
مع السلامة ،