Search This Blog

Thursday, September 29, 2011

أم فتحي

على أطراف حيينا ، حيث الفضاء الفسيح ،
 تتمدد شمس العصاري في البراح ،
 لتلتقط أنفاسها ، وتجفف عرقها ، من كد ظهيرة لاهبة ،
 تتغافل عنا ، استعدادا لمشوار المغيب ..
لنبدأ لعب الكرة ، والشجار ، والشقاوة !

ألمح ولدا يبدو في مثل سني ، يرقبنا من بعيد ، في توجس وخجل ،
 يبدو طويلا نحيلا كعود قصب ، سماره لامع ، عيناه طيبتان ، ثيابه نظيفة ..
 أنزع نفسي من حومة اللعب ، لأقبل عليه بترحاب ،
 انت جديد هنا ؟!
يهز رأسه بالايجاب !
اسمك ايه ؟!
 بصوت خفيض ..
فتحي ، من أسوان .. لسه واصلين الفجر ، بيتنا اللي هناك ده ..
 يشير الي سور غير بعيد ، من الطوب الأحمر ، أحاط بقطعة أرض صغيرة ،
 في ركن قصي منها ، بناء من الطوب الأحمر أيضا ،
سقفه من جذوع الأشجار ، يبدو أقرب الي الكوخ !

يستطرد .. والدي يعمل بالشركة الكبرى ، اصطحبنا لندخل المدرسة هنا ،
وأنت في سنة كام ؟!
أولى اعدادي ، هاروح مدرسة الثورة ،
يعني زمايل ، أنا كمان في نفس السنة والمدرسة .
تعال العب معانا ، واعرفك على اصحابي ،
المرة الجاية ، زمان والدي رجع !

ذهب فتحي وترك أثرا في قلبي ،
 ليس كبقية الأولاد ،
هادئ خلوق ، مهذب نظيف ، محياه يشع ذكاءا !
أذهب اليه ، في اليوم التالي ، ليشاركنا اللعب ،
 أقترب من بيتهم مناديا ، أطرق الباب الخشبي المتقادم ،
ليرد فتحي من خلفه ، بخشوع راهب في صومعة .. حاضر ،
يفتح الباب بالكاد على قدر خروجه منه ، ويسحبه خلفه بهدوء ،
 ونمضي .. يلاحقنا صوت حنون ..
 تصلي العصر وترجع يا فتحي .. حاضر !

متلهف أنا للتعرف على فتحي وأسرته الهادئة الوقورة ،
هو أيضا يبدو محتاجا للحكي ،
 وان لم يتخلص بعد ، من تحفظه الجنوبي المتأصل ،
فتحي أكبر أخوته ، فبعد أن أتم من عمره سنة ،
 تبعه ، أخوان : محمد و مصطفى ، وأختان : فاطمة وزينب ،
على التوالي ، يفصل الواحد عن الآخر سنة ،
فيبدو أن أمه كانت تحمل عقب كل أربعين ،
 بالرغم من زواجها في الخامسة عشرة من عمرها !

أبي ، يكبر أمي بكثير ، يحكي لي فتحي ..
 هو ابن عمها ، ماتت زوجته الأولى ، وكانت عاقرا ، فثنى بأمي ،
 تخرج في المدرسة الصناعية ، يعمل هنا عملا فنيا دقيقا ،
أما أمي فلأن أبيها ناظر المدرسة في بلدتنا ، فهي ( شاطرة ) ومتعلمة ،
 أكتفت بالأعدادية لتلحق بأبي .. هي لاتكف عن القراءة ، وكتابة الخط العربي الجميل ،
لاتفتأ تكررعلى مسامعنا : من يستقم لسانه وخطه وعقله ، ربنا يوفقه و يحبه !
تجهد لتذاكر معنا ما أستطاعت استيعابه ، من موادنا الدراسية المختلفة ،
 تلك متعتها الحقيقية !

يبدو لي بيتهم ( حوشهم ) من الخارج ،
 كصومعة عبادة ، من فرط الهدوء الذي يلفه ،
 ثكنة عسكرية ، من جدية النظام الذي يحكمه ،
 محضن علم وتربية ، من غلبة الأجتهاد والأدب والنظام !

يهل علينا شهر رمضان ، لتزيدنا لياليه ونفحاته اقترابا وألفة ،
ما يلبث العام الدراسي أن يبدأ ، حتى لحقت به ، حرب العاشر من رمضان ..
  صوم ومدارسة وحرب ..
 أجواء ساهمت في رسم صورة نورانية ،
 غمرت وجداني عن فتحي واسرته ،
والده ، الذي يقبل منتصبا مستقيما كمسلة فرعونية ،
يبدو عاملا بجد ، متدين ببساطة ، قوي بتواضع ،
 حازم بحنان ، باسم بوقار ، صامت بحكمة !
أما ، أم فتحي ، فهي نخلة البيت ،
 سمراء سامقة ، أصلها ثابت ،
 ظليلة ، ظلها وارف ،
معطاءة ، عطاؤها غامر !

 أما الأبناء ،
 فلاتراهم الا نظيفون نشيطون ، كصحبة ريحان ،
 يبدون وكأنهم في معسكر دائم للكشافة ، لاينفض !
مدربون بعناية وحزم ، كل يعرف دوره ،
 يقدم عمله على كلامه ، لاتسمعهم الا همسا ،
يضعون أمهم دوما ، نصب أعينهم ، بانتظار أوامرها وملاحظاتها ،
 التي تبديها غالبا .. بنظرة من عينيها اللامعتين !

في ليلة السابع والعشرين من رمضان ، ضمنا المسجد ،
 فرحين بالنصر، مترقبين ليلة القدر ،
 وبعد أن صلينا الفجر ، لمحنا الصغيرة زينب ،
 بباب المسجد ، خجلة مرتبكة ،
 تنتحب و تشير ناحية أخيها فتحي ،
 هرعنا اليها ، لنتلقى صدمة وفاة والدهم ، رحمه الله ،
غادر فتحي ، مصطحبا أخته في خشوع وصمت ، وكأنه كبر للتو ، وصار أبا !
 ليبدأ شوط جديد في حياة تلك الأسرة المجاهدة ..

لم نسمع لأم فتحي صوتا ، لم تلطم خدا ولا شقت ثوبا ،
 بدا الأمر وكأنها أعلنت مع حدادها ، الذي يبدو أنه ، سيصبح أبديا ،
 حالة في البيت أشبه ما تكون ، بالتعبئة العامة !
لم تضيع وقتا ، أستغلت أجازة العيد ، وتوقف الدراسة ، لأجواء الحرب ،
 لتتشاغل عن مأساتها  ، وتشغل أبنائها عن أول عيد لهم ، بلا أب ،
فتقرر انجاز أول أعمالها البطولية ، كأرملة ، بأن تستكمل بناء البيت ،
 عل المرحوم الحبيب يرتاح في نومته ،
 وهو يرى أولاده مستورين في بيت يقيهم نظرة الأشفاق !

دفعت بما توافر لديها من مال ( من الشركة ، ومن بيع قراريط في البلد) ،
الي الحاج عبد الغني المقاول ، جارهم الطيب ،
رفيق المرحوم في الذهاب الي المسجد ، وآخر من صافحه قبل ارتقاءه ،
 ليبني لها الدور الأرضي ، غرفة لها بصحبة البنات ، وغرفة للأولاد ،
 والثالثة لمن يهبط من الجنوب ،
 فضلا عن صالة فسيحة ومنافع ،
 يعلو كل ذلك ، سطح خرساني وسيع ،
 تتنفس فيه مع البنات ، في البكور ،
 وتجالس الجارات ، في العصاري ،
 وتعتني بمؤنة البيت من البط والدجاج !

أدى المقاول الطيب عمله ،
 بوفاء لجاره وصديقه التقي الذي رحل ،
 وبأمانة وشهامة لأرملته التي ترك ،
أذهب لزيارة فتحي ، أثناء جلسة تسوية الحساب مع الحاج عبد الغني ،
 في حضور فتحي وأخوته ،
 يقسم الرجل أغلظ الأيمان ، ألا يتقاضى قرشا أزيد من تكلفة المواد ،
والتي جاهد ليحضرها بأرخص الأسعار ،
 فضلا عن أجرة العمال التي خفضها معظمهم الى النصف ،
 يغمغم منتحبا ..
دا المرحوم كان شامخ أوي ،
 سايق عليكي النبي ، تشرفيني أعمل حاجة لحبات الألماظ دول ..مشيرا الى فتحي واخوته ،
 ربنا يكرمهم ، ونشوفهم في العلالي ،
ينصرف مشيعا بصوت أم فتحي الهامس ، بشكر ودعاء!

أعود لأحضر أمي للزيارة والتهنئة بالبيت الجديد ، ضمن زرافات الجارات المهنئات ،
 تقترب من الباب بسيل من البسملة والدعاء ،
سعيد يانبي ،
اللهم صلي على جمال النبي ،
ربنا يسترك ويعوضك عوض الصابرين ، يا أم فتحي ، يا أميرة ياست الكل ، ياغالية ،
ويخليهملك بحق جاه النبي محمد ،
تهرع أم فتحي منحنية لأحتضانها ، لقصر قامة أمي وسمنتها ،
 اللهم صل عليه ، خطوة عزيزة يا ست أم محمد ،
 الله يعز مقدارك ، مبروك ماعملتي ، أهو كده ، علشان نفسية العيال ،
 ربنا يحرسهم ، ويريح الغالي في تربته بنجاحهم ،
.. تتوقف لتجهش بالبكاء ، لتسيل مدامع أم فتحي العصية ،
تمسح أمي وجهها السمين ، الذي يتصبب دموعا وعرقا ، لتستطرد ..
والنبي ربنا هيكرمك آخركرم ،
 تتمتم أم فتحي مطرقة بهمس ، كدأبها ، الحمد لله ،
لتكمل أمي ..
 دي الشركة هنا ، بتكفي العامل وأسرته من كافة شيئ ،
 كسوة وعلاج محترم ، مجانا ،
وجمعية تعاونية ، وكل شوية حوافز ومكافآت ،
الحمد لله ، رضا ، مستورة .. ربنا ما بينساش حد .. ترد أم فتحي ،
يالا ، اقعدي بالعافية يا حبيبتي .. تنهض أمي ،
تحتضن فاطمة وزينب ، وتقبلهن ،
 وتدس نقوط البيت الجديد ، في أكفهن السمراء النحيلة ،
الله يعافيكي ، شرفتي وآنستي ، ان شا الله ما اعدمك ،
أستأذن فتحي لألحق بأمي ،
 التي لم يزل يتردد صوت دعواتها ، لأم فتحي وأبنائها ،
أمسك بيدها الحنونة ، لأجد فيها حرارة انفعال وتأثر !

تغشاني الدهشة ،
من أين لأم فتحي ، تلك الأرادة الصلبة ، العملية ، المثابرة ؟!
كيف استطاعت أن تصبغ حزنها .. بالفرح ،
عزاؤها .. بالتهنئة ،
 حدادها .. بالحركة والبناء والحياة !

لم يبق أمام  أم فتحي ، الا التفرغ التام لهدفها المصيري .. تعليم أبنائها ،
 لابد وأن تدخر شيئا ، من معاش المرحوم ،
 تحسبا لمتطلبات هذا المشوار الشاق الطويل ،
 نعم التعليم بالمجان ، واجتهاد أبنائها كفاها مؤونة الدروس الخصوصية ،
 وتوارثهم الكتب والأدوات والملابس خفف من المصاريف ،
 الا أن الأيام تحتاج ، ما يخبأ من أجل عواديها ،
 فلا مفر من شيئ من التقشف ،
يعز عليها أن تحرم حبات قلبها شيئا ،
 لئن تنام طاوية ، ولاينقص من عشائهم لقمة ،
ليس لها خيار سوى احتمال الجميع لشيئ من المرارة .. من أجل النجاح ،
ستبذل مافي وسعها ..
 ليبدو ابناءها أمام الناس محترمون مستورون ،
 أما خلف باب البيت ، فسنحتمل أية معاناة ،
آه .. ما أصعبها من معادلة ،
 وما أثقله من حمل !

تستأنف الدراسة، أتفقد فتحي في حوش المدرسة ، فلا أجده ،
 ربما يكون عند ( الكانتين ) كما تعودنا أن نتجمع ؟!
 يبدو أنه لم يبرح الفصل بعد ،
أتوجه الى فصله متوجسا ..
 يستقبلني بمظهره النظيف ، ووجهه الطيب المنير ،
 يجلس منهمكا في دروسه ، جادا منتصبا متأهبا ،
 كتمثال الكاتب المصري ، ولكن في ملابس الجند ،
 يبدو وكأن أمه تدربهم كل يوم ، تدريبا شاقا لمعركة كبرى ،
كأن مصر تحارب بشعبها لتعبر قناة السويس ،
وأم فتحي تحارب بأبنائها لتعبر قناة الزمن !

.. ليه يا فتحي ما بتحضرش الفسحة ،
 ولا بتيجي الكانتين ، وحابس نفسك في الفصل ؟!
أبدا بذاكر، وحتى لاتتسخ ملابسي وحذائي ،
ألتقط من نبرته الخجولة ، السبب ..
 أنه المصروف !

 لترفع أم فتحي الحرج عن أبنائها ،
بعد أن اتخذت قرارا مؤلما بتوفير مصروفهم اليومي ، في اطار خطة التقشف ،
 أختارت أن تشحنهم بفكرة مواصلة المذاكرة والأجتهاد ، حتى في الفسحة ،
 ليتفوقوا ويصبحوا أطباء وطبيبات !
أقنعتهم ، أن حبل نجاتهم الوحيد هو العلم ، ولاشيء غير العلم ،
 ولكي يحوزوا قمة التفوق في العلم ، فلابد وأن يكونوا أطباء ،
 تلك هي قناعتها التي لا تتزحزح !
 فالطبيب يظل محترما لحاجة الناس اليه ، واستحالة استغناؤهم عنه ،
 كما أن ثوابه يكون عظيما ، كلما خدم الغلابة ورحمهم ،
 فلتجتهدوا لترسلوا لأبيكم الغالي ، أكبر قدرمن الثواب !

يبدأ يومها بصلاة الفجر ،
 تلبس سواد العتمة المنسحبة لتفسح للنهار مكانا ، على سواد حدادها الأبدي ،
 تتمسح في حيطان البيوت النائمة ، لتصل الي (حمدي ) البقال ،
 دون كلمة واحدة ، تضع وعاءها اللامع النظيف ، ليسكب فيه ( ماء الفول ) ،
يرفقه بعدد من الأرغفة البلدية ، تكفي اليوم ،
 تعطيه قروشها ، وتمضي في هدوء ،
 لتلتقط في طريقها ، وعاء الحليب ، من ( بسيمة ) الفلاحة ،
البيت ( المعسكر الدائم ) في انتظارها ، كخلية نحل ،
 البنات لكي الملابس وترتيب غرفتهن ، والتعاون في عقد ضفائرهن ،
يضعن صحن العسل الأسود ، والجبن القريش ، والبيض المسلوق .. على الطبلية ،
 بانتظار الخبز والفول ( ماء الفول ) ،
 براد الشاي بانتظار الحليب على النار..
أما الأولاد ، فعليهم تلميع الأحذية و ترتيب أماكنهم ،
تفت الأم قطع الخبز في ماء الفول ، قليل من الزيت ، رشة ملح ،
( تعتقد أن ماء الفول ، هو خلاصة ما في الفول من فائدة ، دون قشر أو مواد صلبة تربك البطن ، بتسقية خبز الردة البلدي فيه ، مع الزيت والملح ، بالأضافة لجبن القريش ، والبيض ، والعسل الأسود .. وجبة سحرية توارثتها ، تجعل أبناءها كالخيل ، قوة ورشاقة ، خفة ونشاط وذكاء ، وشبع .. يغنيهم عن التطلع لأي شيء خارج البيت ) !!
 يسكب الشاي مع الحليب ، تكتمل الطبلية ،
 ليتحلق الجميع ، حول طعام الفطور..
( بسم الله ) وابتسامة رضا في وجه الأم ( القائد ) ،
 ثم ينفضون .. ( الحمد لله ) !

 يتبادلون مناوشات ضاحكة بريئة ، ملؤها الحب ،
وهم يصطفون كالبيادق ، فيما يشبه طابور العرض ، أمام قائد حازم ،
 شعورهم ممشطة ، أحذيتهم لامعة ، ملابسهم نظيفة مكوية ،
 أدواتهم وكراريسهم وواجباتهم أخذت الأم ( القائد ) تمامها قبل النوم !
 يتقدم كل منهم نحو أمه بخشوع ، ليقبل رأسها ويديها ،
 فتحتضنه بعمق ، وتقبله هامسة : الله يحنن عليك ،
 ينصرفون ، بأدب ، تحت صدى تنبيهاتها الجادة ..
 أنتبهوا لدروسكم ، الفسحة في الفصل ،
 المرواح والمجيي دوغري ،
 ابعدوا عن العيال البطالة ،
طقوس مقدسة لاتتخلف كل صباح ، ظفرت بحضورها مرة ..
عندما طلب مني فتحي ، الحضور ، لتسألني أمه عن ( أخبار المدرسة ) !

أصبح فتحي قليل الظهور ،
 كثير الصمت والمذاكرة .. وكذلك بقية أخوته وأخواته ،
 تمر الأعوام وهم يحتفظون بنحافتهم وصمتهم .. وتفوقهم ،
نصل ، فتحي وأنا ، الي محطة الثانوية العامة ،
 ليختار هو القسم العلمي - علوم ، وأذهب أنا الي الرياضيات ،
حتي يأتي اليوم الذي تتعالى فيه ، لأول مرة ، زغاريد أم فتحي ،
فقد نجح  فتحي بتفوق في الثانوية العامة ،
 ليحقق لأمه أول أهدافها ( الأستراتيجية ) ، بدخوله كلية الطب ،
وأنال مناي ، أنا الآخر ، وألتحق بكلية الهندسة ،
 تتوالى الزغاريد كل عام ، بنجاح محمد ، ليلحق به الباقون تباعا،
خمسة عشرة سنة ، وأم فتحي تحمل هم الشهادات ،
 خمس متتاليات ، ابتدائية ، ومثلها اعدادية ، وأخيرا الثانوية  ،
لم تذق طعم الراحة يوما ، حتى تحقق أول أهدافها ،
بلحاق أبناءها وبناتها بكلية الطب  !

تغيب أم فتحي في حالة نادرة من الوجد والتاثر ،
 وتروح في البكاء ، غير منتبهة لوجودنا ،
 تدور في البيت ، وكأنها تبحث عن زوجها ، لتبشره ،
 ناظرة الي السماء .. تتساءل بخشوع ،
كيف حدث هذا ؟!
 الهي أنت من فعلت ، أنت من ربيت ،
 كم من برد عضنا .. فكان سترك دفئا ،
وكم من حر أضنانا .. فكانت رحمتك بردا ،
وكم من جوع أوجعنا..فكان الأتكال عليك شبعا !
ثم تخر ساجدة ، تسبح في دموعها التي اختلطت بدموعنا جميعا !

تمضي الأيام ..
لأسافر أنا ، الي ( فرانكفورت - ألمانيا ) لدراسة هندسة مباني الأستيل ،
 ويظفر فتحي ببعثة للدكتوراة ، في الجراحة العامة ( بأدنبرة – المملكة المتحدة ) ،
 أغيب طويلا ، تصلني من حين لآخر أخبار أفراح أم فتحي ،
 من تخرج وعين معيدا ، ومن أبتعث ، ومن خطبت ، ومن تزوجت ،
 وطوابق البيت التى تعلو ،
 ومشاريع أم فتحي الجميلة ، التي تستحثني أن أعود لتريني اياها !
أعود ، بعد غياب .. الي مصر ،
 التي استقبلتني طفلا ، بغارات الصهاينة ، ابان النكسة ،
 والهبت حماسي مراهقا ، بعبور جنودنا في رمضان ،
لتخيب أملي شابا ، باصرارها على المضي ، الي المجهول !
 أتفحص الناس والشوارع ، والدنيا من حولي ، منقبضا ،
سارحا ، أتمتم ، أما من نقطة ضوء ؟!
   لأجدني قبالة بيت ( الحاجة ) أم فتحي ،
 أصطحب بناتي ، المتلهفات لرؤية أسطورة ، طالما حدثتهن عنها ،
امرأة ، صنعت من محنتها ، لبنات ذهبية في بناء مصر ،
 أنتزعت من كينونتها ، كل ما يعتري الأنثى ،
 من نوازع واحتياجات ، لتجمعه في صرة ،
 وترسله ، ليسبقها الي قبرها ..
كي تتفرغ لحمل ما كتب عليها ،
مما ينوء بحمله أولى العزم من الرجال !

هاهو البيت الصغير ، قد كبر ، ليصل الي خمس طوابق ..
 الأرضي والذي يليه ، مستوصف خيري نظيف ،
اصطحبتني الحاجة أم فتحي ، بفخر ، لأتفقده ،
وأسلم على ( الدكاترة ) محمد ومصطفى وزينب ،
وقد حملوا على عاتقهم ، تخصيص جزء من وقتهم ،
 لخدمة المستوصف ، ودعم الأطباء الشبان من أبناء الحي فيه ،
 .. أدعهم في أنهماكهم وسط الفقراء ،
 نصعد الي الطابق الذي يليه ،
  ثلثه لسكنها ، والباقي .. حضانة ، ومكتب لتعليم الخطوط العربية ،
تهمس ، أهو حاجة أشغل نفسي فيها يا ولدي ..
 ثم طوابق ثلاث ، لشقق كل من الدكتور فتحي ، وأخوته ،
 ليبقي الدور الأخير ، خصصته لجمعية رائدة ، لرعاية المرأة المعيلة !

أجلس بحضرتها خاشعا ، تحتضن بناتي ، وترمقني بنظرة دامعة ، ملؤها شجن الذكريات ،
تتوجه للبنات ، لو تعرفوا غلاوة أبوكم عندي ، زي غلاوة الدكتور فتحي ،
 حمدا لله على سلامتك ، ياضنايا ،
فتحي اتصل ، فرح انك هنا ، وهتحضر فرح زينب ، يومين وراجع ، باذن الله ،
فاطمة بتسلم عليك ، اتعينت في طب اسكندرية ،
 واتجوزت هناك ، المهندس نور ، ابن خالها ، ما يتخيرش عنك ،
هيه ، عرفتوا يا بنات ، أن المرأة نصف الدنيا .. أقول لبناتي بفخر !
تصمت أم فتحي برهة ، تطرق متأملة ، ثم ترفع رأسها بهدوء .. لتقول :
المرأة هي الحياة !!