نهار مجهد آخر ، بالكاد ينسلخ من ليل أثقلته الهموم ،
وأضجره الصهد ، وبلله العرق ،
بفتور وتثاؤب يطل على حينا العجوز ،
الذي سئم بيوته العتيقة ودروبه الملتوية ،
وزحامه الخانق ، وضجيجه الذي لا يهدأ،
يمر بأشعة ضياءه ،
فيأذن للعصافير بالزقزقة ، و للكلاب بالكف عن النباح ،
وللصوص بالهرب ، وللحب .. بالأغتسال !
يوقظ الكادحين ليشقون، والبائعين ليستفتحون ،
والنسوة ليتبخترن في الأسواق ،
وأنا .. لأرقب نشاطه من فوق سطوح بيتنا !
أنتظرالنهار بلهفة ،
ليخرجني من ضمة حجرة خانقة أتكدس فيها مع أخوتي ،
لاأملك ترف التقلب في فراش ،
ولا متعة الأستغراق في نوم ،
ولا جرأة الهناء بحلم !
أنسلت من بينهم ،
لأهرب الي المسجد ، لأستروح بصلاة الفجر ،
وأضم " حبتي " الي " مسبحة الأخوان "!
نتلو القرآن والأذكار ،
ونتجاذب أطراف حديث صباحي خاطف،
نصفه تثاؤب كسول ، ونصفه الآخر ..
للحديث عن أحوال المسلمين و المؤامرة على الأسلام !
أسرع الي البيت عائدا ،
مخترقا جوه الخانق ، كمنجم فحم ،
لأصنع لنفسي كوبا من الشاي ،
أتأبط كتابا ،
وأصعد الي السطح مؤملا نفسي بقطع شوط كبير في المذاكرة ،
قبل أن تبدأ الجلبة ويرتفع الضجيج ، وتستقوي الشمس ،
لاسيما وقد أضحت أمتحانات الثانوية العامة على الأبواب !
أبدأ بما أمقت وأستصعب .. الكيمياء ،
أرشف من الشاي أول رشفة بعمق وتلذذ ،
ترف علي استيعابي نسمة ذكاء منعشة ،
يتصاعد توقد ذهني، يبدو الصعب سهلا !
مزيد من رشفات الشاي ، مزيد من التركيز ، النشاط ، الفهم ..
أتمتم ، الحمد لله ، يا مسهل ،
بين مسألة وأخرى ، أذكار وأدعية ،
ونظرة امتنان الى السماء !
في استغراقي ..
ألمح دفقة عابرة من لون أحمر فاقع ، تتمايل في الفضاء المقابل لسطوحنا !
ماهذا ؟! ماذا بي ؟! هل أحلم ؟! أبهذه السرعة حل بي الأرهاق ؟!
أقتراب اللون الأحمر وابتعاده ، تمايله وثباته ، صعوده وهبوطه ،
كل ذلك أيقظني من غفلتي ،
لأجدها على سطح بيتها أمام عيني ،
أتسمر في مكاني كمتلبس بجرم ،
أذهل عن الكيمياء والشاي والشمس ،
أدخل في حالة من الذكر الهلع المتشنج ،
أردد مستغيثا ، يارب .. ثبتني يارب !
انها " الطاهرة " احدى لوحات الفن العاري !
التي رسمت في حيينا ذات يوم ، فجعلت الحليم حيرانا !
صعدت الى سطح بيتها مبكرا ، لتتفقد طيورها ، تلاحق دجاجاتها ،
فتتقافز وتتمايل في قميص حريري أحمر ،
يروح ويجيئ على جسدها الأشقر السائح ، كأمواج البحر !
رحماك يارب !
الأفق من حولنا فارغ من أي أحد ، حتى من الهواء !
هرب ريقي ، تسارعت دقات قلبي ، لهثت أنفاسي !
أغمض عيني مخاطبا نفسي كمجذوب ، لا ، اياك يا " هاشم " أن تنظر الي حرام ،
وأنت الداعية الشاب الراكع الساجد الحافظ لكتاب الله ، بأي وجه تقف بين يدي الله ،
بأي عين تنظر في وجوه أخوانك وأنت تحثهم على التقوى والأستقامة وغض البصر ؟!
أهرب يا " هاشم " .. أنزل يا " هاشم " !
لكن سرعان ما أفتح عيني لأجدها أمامي ،
تزداد اشتعالا !
أنظر يا " هاشم " ..
انها " الطاهرة " ،
الأنثى الفاتنة اللعوب التي كم هدت من جبال ،
أني لك أن تصمد أمام غوايتها !
يا ألهي ما هذا ..
لقد انحنت وانحسر ثوبها عن جسد من الكريستال النقي ،
تزدادا عيناي جحوظا وتسمرا ، وصدى النداء خلفي ..
أنزل يا " هاشم " !
معقول ؟! ..
بان صدرها ، لم تر في حياتك صدر امرأة ،
أنظر الى صدر " الطاهرة " .. كرتان عاجيتان منتصبتان ،
يداعبهما ، بجرأة ، شعر ذهبي وافر، كشال من حرير فاتن !
أهرب يا " هاشم " ،
نعم ، لابد وأن أنصرف فورا ، وأستغفر ربي ،
وقبل أن أهم بالفرار ..
تباغتني بسهم من عينيها الزرقاويين كاللازورد ، النجلاويين كضوء القمر ،
ليسري الخدر في كياني كله ، يكاد يتحول الي اغماء !
بايماءة من رأسها الصغير الجميل ، تبادرني بتحية الصباح !
أتلعثم..
وهي بخبرتها تلمح عيناي المسمرتان عل صدرها النافر وقوامها اللامع ،
تهمس من مكانها ، بما أفهمه من حركات شفتيها الناريتين:
عامل ايه في المذاكرة ؟! ..
شد حيلك با " هاشم " !
وقبل أن أفيق ، أشارت بكف لؤلؤي، مودعة تتمايل ،
وكأن الأرض كلها تموج لقوامها المتبختر المائع !
أجلس على الأرض ، ألصق ظهري الي الحائط ،
أسند رأسي بحزن وانكسار ،
أنظر بخجل الي كتبي المبعثرة ،
ليبدأ عذاب الضمير ،
ويثقل هم لقاء الأخوان بوجه انساق ، ولو للحظة ، للغواية !
تفتتني الأسئلة و تغرقني الذكريات ..
كنا صبيانا نلعب في الحي ، حتى أنشقت الأرض قبالة بيت الحاج محمود ،
عن امرأة ضخمة كفيل ، لم نرها من قبل في حيينا ،
تمسك بذراع فتاة بالغة الحسن ، " ولا بتوع السيما " !
ذهلنا عن اللعب ووقفنا مشدوهين ،
انعكاس الشمس على شعرها الذهبي " زغلل " أعيننا ،
تلمع في الشمس كألماسة !
لوحة بارعة ملونة ..
ذهبي للشعر ، فيروزي للعينين ، وردي للوجنتين ،
قرمزي للشفتين ، فضي للجبين ، زهري للبشرة !
أيقونة تتهادى متبخترة ..
فيدندن النهار ، و تتراقص العقول !
" كامل" النجار ..
يمد رقبته " مبحلقا " فينزل بشاكوشه على أصابعه وهو ذاهل لايبالي !
" حباظة " القهوجي ..
يلوي رقبته ، فيضع جمرات الفحم في " حجر" الزبون بدلا من " حجر " الشيشة ،
ليناله صفعة على قفاه ..عادي !
حتى " زكي " البقال ..
يرتبك من هول مايرى ، فيغرف " كبشة " الفول على الأرض بدلا من صحن الزبون .. وماله !
وهكذا ..
حيينا العريق الوقور فتنته " الطاهرة " من رأسه حتى قدميه !
ظللنا نعيش على وهج مرورها ، ونلوك سيرتها ، ونتتبع حركاتها ،
حتى كان يوم ، علقت فيه التعاليق والزينات ، وصدحت الميكروفونات ،
ايذانا بزواج " الطاهرة " من " مكرم " ، نجل أحد تجار حيينا الكبار،
شاب ضخم الجثة ، مستقيم ، خلوق ، طيب القلب !
تزوجت" الطاهرة " من " مكرم "،
وسط حسد الجاهلين ، واشفاق العالمين !
ولم يمر عامين ، قضى " مكرم " معظم لياليهما يبيت في الحدائق ،
حتي لقي رب كريم ، ولم يترك خلفه ولد !
لتنفجر قنبلة الحكايات المخجلة ،
التي أكدت صحة معظمها " الطاهرة " ،
بصنيعها عقب انتهاء عدتها من " مكرم " ،
حيث أضحت مصدر اسعاد للكثيرين !
يا أخ هاشم ، يا أخ هاشم ..
نعم نعم ،
ماذا دهاك ؟!
ما الذي أستغرقك هكذا ، حتى غفوت ؟!
عفوا أخواني ، فيما كنت أتحدث اليكم ؟!
تحدثت في أكثر من عنوان !
مرة عن : التناقض بين الصورة والحقيقة ، الأسم والشخصية !
ومرة أخرى عن : النفس الهشة والجمال السائب !!
ما شاء الله اسلوبك رائع لايخلو من جرأة تظهر من وقت لاخر ....ولكنه ياخذ الانتباه لكل التفاصيل ويرسم صورة واضحة بكل الوانها ....حتى جعلنى لاانتبه لشئ حتى انتهى من القراءة ....لا يكفى ان تكتب تدوينات ولكن ارشحك لكتابة قصص قصيرة فاسلوبك ممتع جدا ومتنوع ويسمو بالعقل والروح .....ساتابع المدونة اذا سمح الوقت لذلك ...وانتظر اعمالك القادمة ............عبير هبه
ReplyDeleteروعة .. اعجبتني جدا جملة: أسرع الي البيت عائدا ، مخترقا جوه الخانق ، كمنجم فحم .. وكذلك استخدام كلمتي (حجر) و (حجر) في موضعهما .. طبعا كالعادة وصفك اخاذ يجعلك تعيش الحكاية، وتتمنى رؤية الطاهرة .....
ReplyDeleteالتناقض بين الصورة والحقيقة ،
ReplyDeleteو النفس الهشة والجمال السائب !!
رائع ...
كتاباتك بجد تعالج فى مضمونها وتشرح خبايا النفس البشريه باسلوب رائع جدا وجذاب وبسيط وعميق فى مدلوله
ReplyDeleteجميلة قرتها مرتين امبارح ورجعت قرتيها تانى النهاردة انت فنان تسلم ايدك واحساسك الجميل
ReplyDeleteبلوج رائع ومواضيع جميله
ReplyDeleteالحقيقه كل خاطره اروع من الاخرى ،احييك على تلك الخواطر الرائعه والاسلوب الراقى جدا ، بجد عاجزه عن وصفها ،
ReplyDeleteالمدونه دى عاوزه وقت كافى تستحق المتابعه شيقه جدا
ReplyDeleteجميلة جميلة
ReplyDeleteتشرفت بقراءة اعمالك ..واستمتعت ايضا..واحسست بروح مصر التى احسستها من قبل فى كتابات ادريس ومحفوظ وحقى!
ReplyDeleteجميلة! فكرتنى بكتابات نجيب محفوظ
ReplyDeleteكلماتك رقيقة رائعة
ReplyDeleteكلماتك أعادتنى لحاله فقدناها وإفتقدناها لعشرات ألسنين,إفتقدنا رهافة ألحس وخفق ألقلب لكل مايمر بنا من إنسانيات,بسماحنا لغول ألماديات بدهسنا
ReplyDeleteاسلوب أدبي رائع في عرض مشهد من مشاهد الحياة، رغم جرأة بعض الكلمات:))
ReplyDeleteاسلوبك قصصي شيق.. لاتشعرنا بالملل ونحن نقرأ..
شكراً استاذي الكريم ...
للمرة العاشرة هحاول أعلق ويارب المرة دى تصيب
ReplyDeleteقرأت لحضرتك أكثر من مرة واعلم مدى إتساع قاموسك اللغوى وصورك البلاغية .. وأعتقد أنك تقصد من كتابة هذا النص هو القصة القصيرة ، ووقد كان لى تجارب ليست بقليلة فى كتابة هذا النوع ومراحل طويلة من دراسة النقد الأدبى ، ربما يكون بيننا سجالات كثيرة فى النقد _ طبعا مواطن الضعف والقوة _ لكن أكتفى فى هذا التعليق بقدرة عالية على رسم الجو النفسى المطلوب / تحياتى :)
اليوم والان رجعت بعمرى لزمن القراءة الجميل أيام الصبا والشباب ..عشت مع قصتك مشهد حى بكل تفاصيله وكأنى ارى مشهد فى فيلم لنجيب محفوظ.. لقد عبرت عن المشاعر الانسانيه لشاهين بكلمات مهذبه رقيقه توضح الصراع الذى تولد داخله بين النفس الهشه والجمال السائب....مشاعر لا اراديه تتولد لدى الرجال عند وجود المؤثر....فى النهايه احييى قلمك وابداعك :::::::::::ابداع
ReplyDeleteرائعه جدا جدا ننتظر المزيد من ابداعك
ReplyDeleteالله يكون في عون هاشم جميلة جداً بس هتزعل الاخوان منك كدة علشان هما مبيغلطوش اصلا !
ReplyDeleteملكت الجو النفسى للقصة ، و وصفك فيه إطناب محبب ، و كانت الصور (الكوميديه ) إضافة ذكية لحالة الإفتتان و الغواية التى تبثها (الطاهرة) -الذى لو كان اسمها فيصبح هو التناقض الذى أشرت إليه - حديث النفس و ضعفها و رفرفة الروح نحو (الطهر) و وقوعها أسيرة لصورة (الطاهرة) موحية ، و أظنك خشيت الإسترسال فى هذه النقطة حتى لا تخرج القصة عن هدفها و جوها العام .
ReplyDeleteبديعة .. و شيقة .. و آسرة و لا تفتقر العظة ..شكرا لك يا مرسل المتعة دائما .
استاذنا الحبيب اشتقنا لكتابتك المميزة ... استمتعت كثيرا بالقراءة واعجبنى جداا تشبيهاتك لتأثير الصباح على نماذح مختلفة من المخلوقات سواء انسان او حيوان ولفت انتباهى جرأتك هذه المره فى سرد التفاصيل التى جعلتنا نعيش معك الحكايه ونشاهدها معك كانه مشهد حقيقى من فيلم سينمائى ... فكل منا لديه طاهره فى حياته سواء كانت واقع او خيالات من نسيج العقل .. مرة اخرى احييك واشكرك على المتعه التى اسعدتنا بها
ReplyDeleteرائعه كعادتك يا استاذ محمد , بسبب أنشغال وقتى معظم قرائتى بتبقى فى المواصلات , و عندما أنسى نفسى فى القراءه عند محطة نزولى أدرك إن الكتاب رائع و يسلب الالباب , ولو كنت باقراها فى المواصلات كعادتى يبقى مكنتش هاروح بيتنا :)
ReplyDeleteرائعه اسلوب حضرتك زي اسلوب يوسف السباعي في الكتابه :))
ReplyDeleteجريئه و معبره - أنت لازم تكتب قصص قصيره و تنشرها
ReplyDeleteهذه رائعة اخرى تعالج فى مضمونها وتشرح خبايا النفس البشريه باسلوب رائع جدا وجذاب وبسيط وعميق فى مدلول
ReplyDeleteولقد جذبنى انك وضعته فى سياق من الحلم فالحلم لا يعتبر خطيئة او نحاسب عليه ورايتك تنؤ عن هاشم ان يقع فيها خارج الحلم شكرا لك وهاشم ايضا يشكرك:)
خجلت من أن اكملها .. بل بالفعل قفزت عن كثير من كلماتها ..
ReplyDeleteوأعتقد أن تصرفي إن دل فإنه يدل على واقعيه المشهد وكأنه حقيقه ..
أجبرتمونا على تخيلها ..