بإنطلاق صوت
المراقب الخشن ،
عبر
ميكروفون مدرسة البنات الثانوية ،
التى نمتحن بها ، بدلا من
مدرستنا العسكرية ،
معلنا
إنتهاء الوقت المخصص لإمتحان مادة الكيمياء ،
آخر مادة بإمتحانات الثانوية العامة ..
ألملم
أدواتي وأسلم ورقتى ، متباطئا حزينا ،
بعد أن قطعت الوقت ذهابا وإيابا ،
بين ورقتي الأسئلة
والأجوبة ، أحملق فيهما ،
كقارئة
فنجان تدور بمقليتها فى نقوش وطلاسم ..
كل محاولاتي لإنتشال ذهني ،
من بئر التفكير
فى عمتى منى ، ليركز فى الكيمياء ،
لإقناع قلبي بالكف عن التشاؤم ، باءت بالفشل ..
إلى أن انتهى الوقت بورقتين ،
أحدهما بيضاء ، سلمتها
للمراقب بهدوء ،
والأخرى
سوداء طويتها مع حسرتي وشرودي ،
لأيمم
وجهى شطر البيت ..
متلهفا على
الإطمئنان على عمتي ،
تلهف
أب على إبنته ، عاشق على محبوبته ،
شحيح على ثروته ..
كيف
طاوعتني نفسي ،
أن تمضى ليلتان ، دون أن أراها ؟!
أمن أجل
التركيز فى الكيمياء ؟!
هاهى الكيمياء تُمحى
من ذاكرتي ، بقرصة مباغتة ،
أصابت قلبي فجأة منذ الصباح ، بسحائب أفكار ،
وهواجس
مشئومة سوداء ، ملئت سماء ذهني ، برجع
صدى ، لصوت منكر أجش ، يتردد بوجداني ،
يحاصرنى ، فلا أملك منه فكاكا ،
هامسا : عمتك منى ، ليست بخير ..
حتى قضيت وقت
الإمتحان أطير الأوراق ،
بزفير
حار طويل يندفع من صدري ،
فلم يكن ثمة شهيق ..
أصوات أقراني العالية
المتلهفة المسرسعة ،
وتساؤلاتهم عما أبليت ، عما أجبت
وما تركت ،
تاهت وسط ضجيج
دقات قلبي التى ،
كلما اقتربت من البيت ،
تتسارع كفريسة
تطاردها أسود جائعة ..
ماهذا الزحام الذى
يسد فوهة الشارع ،
كنحل يزن ، متزاحما على ثقب
خلية ،
سيارات إسعاف ،
وإطفاء ، ونجدة ،
يتنافسن فى الصراخ والعواء
..
نسوة يتدلين من
الشرفات ، هلعات بشعور منكوشة ،
يتسابقن فى النحيب والعويل ..
ما هذا المشهد
الفوضوى ، المخيف المقبض ؟!
ومال
بيتنا مختفيا وسط هذا كله ،
بالكاد يميزه عن بقية البيوت
،
بقايا دخان
أسود ، يفوح برائحة الموت ..
تلتقط أذني كلمة
حريق ،
مقترنة
بإسم عمتى منى ،
لأشعر وكأن رأسي
تفور ،
عيناي
تتدحرجان بسرعة رهيبة نحو قاع روحي ،
أفقد توازني ، أرى الأرض والسماء
تتبادلان الأماكن ،
ليستقر
جسدي كجمرة من نار فى قعر دلو من عرق ..
ما
إن أغمض عيني على فراش جيران لنا ،
التقطوني من هول الصدمة ، حتى
نلتقي ..
فأرى فى نومتي ،
وكأني ذهبت لزيارتها بالمستشفى ،
متلهفا ، أبحث عن غرفتها ، فأجدها خالية ،
أهم بالخروج مسرعا ، لأسأل عنها ،
توقفنى إحدى الممرضات :
تسال عن الست منى ؟!
رأيتها منذ قليل ذاهبة إلى الحمام ،
ألتفت ، فأجدها أمامي ..
بثياب
بيضاء وسط هالة من نور غمرت المكان ،
تفتح لى ذراعيها مقبلة نحوي ،
دون أن تصل إلي حيث
تسمرت !
بإبتسامة
عاتبة تهمس : أهلا بقاتلي ..
أتلفت حولي مذهولا
، لأتأكد ألا أحد غيري بالمكان ،
متلعثما : أنا ياعمتي قاتلك ؟!
لاعليك .. ولكن
أين بقية القتلة ؟!
من تقصدين ياعمتى
، أنا لاأفهم شيئا ؟!
أين أبي ، الذى
قتلني بقسوته وتزمته ورجعيته ؟!
أين أمى ، التى تخلت عنى بسلبيتها
، وقتلتني بضعفها ؟!
أين خطيبي ، ابن خالى وحبى الأول ، ثروت ،
الذى شهد حبنا يوأد فى عز طفولته
أمام عينيه ،
لينصرف غير عابئ بى ولا به ،
ليبحث عن حب جديد أسهل
؟!
أين أبيك وبقية اخوتي ، الذين
تخطوني ،
كمحطة مروا بها يوما
؟!
أين قاتلي الأكبر ، بهيج ، الذى
خدعنى ،
واستنزف شبابي ،
كبلهاء ساذجة ؟!
وأنت
.. ألم تشاركهم قتلي ؟!
مبتعدة ، تتلاشى ،
مرددة :
قتلتني بحنانك ،
قتلتني بحنانك ..
لأنتفض قائما على صرخة واحدة شقت سقف الحجرة ،
قتلتها بحناني ، قتلتها
بحناني ..
هى الأنثى الوحيدة
على أربعة ذكور يكبرونها ،
ويكبرهم
جميعا أبي ..
لم
تمل أبدا من التفاخر بى ،
كأول مولود ذكر
لأخيها الأكبر ، شبهها الخالق الناطق ،
وسيكبر ويناديها بعمتي ، ولا تفتأ تردد على
مسامعي ،
أنها كانت أول من استقبلني ساعة جئت إلى الدنيا ،
وضحكت فى وجه بكائي ،
وأنها من اختارت إسمي ،
وأنها احتضنت لفافتي ، ولم تكن أتمت ثمانية أعوام ،
لتطوف
بى على جارات جدتي ولداتها ،
طالبة منهن حسنة ، وكأنها تشحذ
،
لأعيش محصنا من شر
النفاثات فى العقد ،
ومن شر
حاسد ، إذا حسد ..
وأنها طالما هرولت
خلف أمي إلى الطبيب كلما سخنت ،
وخبطت على صدرها ، وشهقت وسمت وصلت
وكبرت ،
كلما تعثرت وانكفأت ، وطارت
بحبوي وخطوي ،
وأكلي وشربي ،
وضحكي ولعبي ،
ورقصت
فرحا عندما نطقت بتلعثم :
عمتى منى ..
فى الطريق إلى كُتاب
الشيخ ،
تظلل
علي من الشمس ، تراجع لى الآيات التى حفظت ،
تعلمني حروف الهجاء ، وجدول الضرب ،
تصحبني مع أمي إلى المدرسة ، وقد
كوت ملابسي ،
ولمعت حذائي
ومشطت شعري وجهزت حقيبتي ،
لتراني
جالسا أمام السبورة ، بأول تخته ..
نروح ونجيئ سويا كأننا
توأمان ،
جاء أحدهما
متأخرا عن الآخر سبعة أعوام ،
تجمعنا
فى الشكل ، سمرة القمح المذهبة ،
والتقاطيع
المصرية الصميمة ، ولمعان العين ،
ووسطية
الطول والعرض ،
ويجمعنا
فى الطبع ، طيبة القلب وخفة الظل ،
والتأنق ورهافة الحس ، والأنفة
والعصبية ،
وقلة الصبر ..
من آن لآخر
تعابثها أمى ، الكسولة المحبة للنوم ،
متى
تتزوجين لآخذ منك ولدك ،
كما استحوذتى على
ولدي ..
لتبادرها
بشراسة .. ولدك ؟! بأمارة ماذا ؟!
وأنا من أصحو من الفجر لحمامه
وفطوره ،
ومدرسته ومذاكرته ،
بينما
تتقلبين بفراشك حتى الظهيرة ..
خوف جدي عليها ،
لكونها وحيدته الصغيرة من الإناث ،
أتخذ شكلا مرضيا متشددا ، فكان يمنعها من أن
تخرج ،
أو تطل من شباك أو شرفة
بمفردها أبدا ،
وزرع
اليأس فى نفوس خطابها ، بتشدده المبالغ فيه ،
بدعوى غلاوتها ، وخوفه عليها ،
وحرصه على ضمان مستقبلها
..
فضلا عن صمت أمها
القاتل ،
وحضورها
الباهت البارد ، وعزلتها التامة عنها ..
وأنانية أشقائها الذكور ، وإستغراق كل
منهم فى عالمه ..
كل ذلك جعلها تقضى
وقتها ، إما فى اللعب معي ،
وإما غارقة
فى سماع الموسيقى والغناء ،
وكأنها عاشقة متيمة ، أو متابعة للموضة
والأزياء ،
وكأنها نجمة مشهورة ..
فهى رشيقة
القد ، نحيلة الخصر ،
مفعمة
بالحيوية والنشاط ،
مولعة بالنظافة
والأناقة والألوان ،
تحتفى بكل مافيه فن أو
ذوق أو جمال ..
قامت قيامة جدي ، وكاد
يموت بأزمة قلبية ،
عندما تجرأت
وطلبت ،
أن تكون
هدية نجاحها بالثانوية العامة ،
ماكينة خياطة حديثة ..
فأين يخبء
وجهه من الناس ، وابنته الوحيدة ،
بنت الأصول ، تريد أن تكون خياطة ؟! إن كان
ولابد ،
فلتنتظري حتى أموت ، لتفعلي ماتشائين ..
عبثا تحاول إقناعه
بأنها تهوى التفصيل والأزياء ،
وتريد
الماكينة لتستعين بها على إشباع هوايتها ،
وبالمرة تصنع ملابسها وملابس صديقاتها
وقريباتها ،
ولكن هيهات ..
حاولت
أن تستحث جدتي كى تدعم موقفها فى مواجهته ،
أو أن تحاول إقناعه ، رغم أنها تعرف أن
ذلك محالا ..
فقد فتحت عينيها على الدنيا
،
ولم
تسمع لأمها صوتا فى البيت ،
ولو قتلها
أبوها ، ماهمست أمها ببنت شفه ..
دام بكاؤها ثلاث ليال ، ولم يزحزح جدى
،
عن تصلبه المعتاد فى كل
صغيره وكبيرة ،
إلا الشيخ يوسف ، شيخ المعهد الديني
الأسبق ،
هذا الشيخ الكبير الوقور
، وأحد كبراء عائلتنا ،
الذى يخاطبه
جدى مقبلا يده بتبجيل ،
ويعمل
له ألف حساب ..
تفضل يامولانا ،
مالها إبنتنا
الحبيبة منى ، وكأنها كانت تبكي ؟!
حضرتها ، بدلا من
أن تفرح بخاتم ذهبي ،
أو ساعة قيمة هدية لنجاحها
، تطلب ماكينة خياطة ،
تريد لنا الجرسة
والفضيحة وقلة القيمة ،
ويقال أن إبنتنا تعمل خياطة ،
وأنت ، هل صليت
المغرب ، ياحاج ؟!
مرتبكا ، للأسف لم
أصلى بعد ، ولكن حالا أدركه ،
فلتدرك صلاتك ،
حتى أستمع إلى ستنا منى ..
ليغادر الرجل
الوقور ، وتصل الماكينة ،
مقيدة بشروط جدي الصارمة،
ألا يعرف
بوجودها أحد ، وألا تدخل غرباء إلى البيت ،
وألا
تتقاضى من ورائها مليما ..
أيام وليال ، لم
تنم من الفرحة بماكينة الخياطة ،
تنثر المفارش الملونة والستائر
والكرانيش ،
بأنحاء البيت ،
وتفصل جديدا وتصلح قديما ..
لتصحو على رفض
أبيها القاطع ،
أن تذهب إلى الجامعة
، حيث الخلطة بالشباب ،
والذهاب والإياب
، والدخول والخروج ،
والطلوع والنزول ،
وما ينطوى علي كل ذلك من مخاطر ..
يتشفع الشيخ يوسف مرة
أخرى ،
بعدما
تخاذلت الأم والأخوة ، كعادتهم فى كل مرة ،
عن الوقوف إلى جانبها ،
فلاصوت يعلو
على صوت الأب الصارم الحاسم القاطع ..
يصبرها الشيخ ،
ويربت على كتفها ، ويقبل رأسها ، ويقنعها
بالتنازل عن رغبتها فى كلية التربية ،
لتعدل عنها ، إلى كلية التجارة ،
بنظام الإنتساب ،
طاعة لأبيها ،
وبرا به ، ورضوخا لحكمه ،
فلا أحد مثل أبيها ، يحبها
ويخاف عليها ،
ويعرف
مصلحتها ، لكنه يرى مالا تراه ..
مغادرا هذه المرة
، يهمس بإذنها ،
اسمعى
الكلام ، وارضى ، وأبشري بأن الله سيرضيكى ..
تسمع الكلام ، وهل خلقت إلا لتسمع الكلام ؟!
تسمع الكلام ، وهل خلقت إلا لتسمع الكلام ؟!
تدوخ حتى يستجيب
أخوها الأصغر ، محسن ،
ويكلف
نفسه بإحضار كتاب أو محاضرة لها ،
وتكتمل دوختها ، حين تحاول أن تفهم ،
ماتحويه تلك الكتب من مواد غبية
جافة ،
كالمحاسبة ، التى
لاتطيق اسمها ..
بعد طول كفاح
ومعافرة ، تخرج بثلاثة مواد ،
لتبدأ رحلة التعثر ، وتأخذ كل سنة فى سنتين ،
حتى يغضب الوالد
غضبا شديدا ، ويهددها ،
إذا لم تنجح ، فليسعها البيت
،
وتنفعها ماكينة
الخياطة ..
يسعفها الحظ ، ويحضر
ابن خالتها الأستاذ ثروت ،
المحاسب ببنك القاهرة ،
لزيارتهم ، ويعلم بالمشكلة ،
ويبدى إستعداده لمساعدتها
، بشرح المواد التجارية ،
فيوافق الوالد ، على مضض ، أن يجلس معها ثروت ،
مرتين
بالأسبوع ..
لا أدري ، ماذا
حدث لعمتي بعد زيارتين ،
من ابن خالتها ثروت ، رغم
تعليمات جدي المشددة ،
أن يجلسا
بالصالة ، وان أحضر كتبي ،
لأذاكر إلى جوارهما ..
وكأنها وردة ،
صادفت قطرات ندى ،
مستظل
بظل شجرة فى الهاجرة ،
كان يتلهف على
عابر ، يسقيه شربة ماء ،
ناي أو كمان ، طال
إنتظاره لعازف يبدع ،
طاقة هائلة من نور
ونار ، عاطفة وإنبهار ،
لم
يكن ينقصها إلا محفز ..
كل ما جبلت
عليه من طيبة ورقة وحنان ،
ومن
عشق للذوق والجمال ،
وكل ما
اختزنته من مشاعر جياشة فياضة ،
وكل ما حملته من إشتياق للحب
، وتلهف عليه ،
جمعته ببراءة
وسذاجة طفلة ، لتضعه بين يدي ثروت ،
بعد أن سحرها ، بسحر وسامته الرجولية ،
أناقته وجاذبيته ، وأشعة عينيه
الآسرة ،
وهدوءه الهامس
الفاتن ..
ليست أول مرة تراه
أو تسمعه ،
لكنها أول مرة
تجلس إليه ، تقترب منه ،
تشم عطره ، تغوص بعينيه ، تحوم
حول حماه ،
تقع بأسره ..
كم كانت بحاجة إلى الحب ،
تعيش حالة
صامتة من البحث عنه ،
كمن يبحث عن كنز تاه منه ، دون ان
يبوح لأحد ،
مخافة أن يسبقه إليه ..
لم تكن تتخيل
أن التداني ،
سيحيل المعتاد المألوف ،
إعجابا ، فولها ،
فعشقا ..
أما وقد
كان ، وسرى طيف الحب فى روحها ،
وحط طير العشق على شباك قلبها ،
فلا مناص من إنتشار
العطر ، وذيوع الخبر ،
وثبوت
حالة ، لم تعد تخطئها عين ..
ليتشجع ثروت ويطلب يدها
من زوج خالته ،
وتقرأ فى
بيتنا الفاتحة ..
على أنوار ضياء
يتلألأ بوجه عمتي ، من الفرح ،
يقام
حفل خطبتها ، الذى تألق فيه شبابها الغض ،
وجمالها الهادئ الرشيق ، وكان كل شيئ
فيه ،
من أول خاتم خطبتها
، مرورا بفستانها ،
وتسريحة
شعرها ، ومكياجها الهادئ ،
وما نثرته بالمكان
من لمسات فنانة رقيقة ،
مرهفة
الحس ، لوحة من الفرح ملونة بألوان الحب ،
يتناغم فيها جمالها ، مع وسامة عريسها
..
فجرت خطبتها
ينابيع جمالها البكر ،
ونفخت
الروح فى حياتها الخامدة المملة ،
وأخرجتها من عزلتها الخانقة
الباردة ..
لأجد نفسى ملزما بالتفرغ لها ،
نهار الخميس وليلة الجمعة من كل أسبوع ،
فبعد الظهر ، أصحبها إلى كوافير
فريد ،
لأبقى منتظرا بالخارج
، حتى تخرج مصقولة لامعة ،
تضربني على ظهري بدلال وتقرصني وأنا أضحك منها ،
وقد
لفت شعرها ببكرات ، جعلت رأسها الصغير ،
كقفص عصافير ، لفه صاحبه بقماش ، ليسافر به ..
وعندما يأتى المساء ،
أكون
على موعد مع النور والنار ،
نور ، ما أراه
من سعادتها وتألقها ،
جمالها وأناقتها ، وظمأها
البادي للحب ،
وهى تتهادى إلى جوار
خطيبها ،
لأتعلم من
مصاحبتهما الحب ، وأتدرب على العشق ..
ونار ، من شعوري بالحرج ،
لما أشكله من عبء
، على إنطلاقهما فى علاقتهما ،
وأنا أرى أناملها
الرقيقة تتحايل على لمسة من أنامله ،
كفها
الصغير يحن لحضن من كفه ،
عيناها تشعان بريقا ملؤه الوله
..
نار خجلي من
همسهما ، وعناق عيونهما ،
نار شعور
دفين ، أحاول تكذيبه وطرده ،
بأن ثروت يتعامل مع منى بإندهاش ،
غير مستوعب
لإندفاعها الجارف الجامح نحوه ..
لا أدرى لماذا
أشعر بأن ثروت يجاريها بجزء من قلبه ،
أما بقية قلبه فيبدو مخدرا لم يفق بعد ،
ليكون على مستوى مهرجان موسيقى
الحب وألوانه ،
الذى أقامته له منى من أول يوم ..
تقلقني رؤيتها تحلق فى
سماء الحب ،
وهو لم يزل
ينظر إليها ببرود على الأرض ،
تلف وتدور وتلمح فى كلامها عن الحب
، السعادة ،
المستقبل ، عشها الصغير ، حلمها الجميل ، الأطفال ،
الورود ، القلوب ،
الشموع ، الألوان ، العطور ..
وهو
يتكلم عن الكرة وشلة المقهى ،
وعن أمه وأخوته ، والبنوك
والظروف ..
كم أنا مشفق
عليها من سكرة الإندفاع ..
خمسة مشاوير
رافقتها إلى الكوافير ،
ليقطع جدى بعدها الطريق ،
ويغلق الأبواب ،
ويطفئ الشموع ، ويخنق الورود ،
ويقيم الدنيا ولا
يقعدها ..
بعد أن رأى ثروت خارجا
من كافيتيريا العوامة ،
سيئة
السمعة ، لما يجترح فيها من شرب ،
وتهييس وتحشيش ..
أيمان
مغلظة ، لم تخلو من أيمان بالطلاق ،
ألا يدخل ثروت بيتنا بعد
اليوم ..
تدور بغرفتها
المسدودة النوافذ والأبواب ،
تهذي وتنوح : أين أنت ياشيخ
يوسف ؟!
أدركنا يا
حلال العقد ..
ياليت ،
فقد لقى ربا كريما ، فى حجه الأخير،
ودفن بالبقيع ، حسبما أوصى ..
أين أنتى يا أمي
؟! أين أنتم يا أخوتي ؟!
أين أنتم يازوجات أخوتي ؟! ياناس ، ياعالم ، يا خلق ..
من ينقذ حبي الوليد
، من السحق والوأد ؟!
لا أحد يهتم ، لا أحد يرد ،
فلا صوت
يعلو ، فوق صوت الأب ..
احتل الحزن أرض الفرح ،
وانشرخ القلب ،
وسال الدمع
، وتمدد الصمت ..
وحلت صيدلية وصفي ، محل كوافير فريد ،
وحلت أدوية الصداع والقولون العصبي ،
وآلام الأسنان والطمث ، محل
الشيكولاته والورد ،
والعطور والمكياج ، وألبومات الموسيقى والغناء ..
العود الغض الطري
المخضوضر ،
يفقد
ماؤه يوما بعد يوم ،
ليصبح يابسا
مشدودا متوتر ..
أمر على سرادق
العزاء ، الذى نصبته لحبها الأول ،
كل صباح ، لينال قلبى حظه من أحزانها ،
لأجدها متكورة
، وقد عصبت رأسها ،
ذابلة ، صامتة ، ذاهلة ،
شاحبة ،
تطيل
النظر بعيني ، تنساب منها دمعة ..
كنت حاسس ،
أليس كذلك ؟!
أعرف أن
إحساسك لايخيب ..
أعرف أنك وحدك فى
هذا العالم الذى يحس بي ،
الذى يحبني ، فأنت أنا ، لا لست
مجرد عمة لك ،
ولا أنت
مجرد ابن أخ لي ، أنت أنا ..
أنت أخى و حبيبي وصديقي
، أنت أرحم بي من أبي ،
أحن على من امي ، أكثر فائدة من أخوتي ،
أرجوك لاتتركني ..
أضع كفى المرتعشة
على فمها الصغير ،
الذى لم يستقبل زادا
لثلاثة أيام مضت ،
باكيا أتوسل إليها ،
أن ترحم نفسها وترحمني ،
وأن
ترضى بالمقسوم ، وأن تحمد ربها ،
وأن تصدق أن ثروت لم
يكن يستحق ،
كل هذا الفيض
الغامر من حبها ،
وأن من يستحق
حبا بشموخ وعظمة حبها ،
يوما ما سيأتي ، حتما
سياتي ،
فإذا
لم يعش مثلها ويهنأ ،
فمن
ذا الذى يستحق عيشا وهناء ؟!
أنجح فى إقناعها
أن تأكل من يدي ،
أنتزع من ثغرها الحلو ، إبتسامة ،
بدت كشمس
طال إنتظارها بعد طول الغيم ،
فأطلت قدر لمح البصر ، لتعاود
المغيب ،
أعطيها علاج
الصداع والقولون ، فنجان القهوة ..
أمضى سارحا فى لغز
يحيرني ، اسمه .. الأب !
ماهذا
البغض الذى يجتاحنى للآباء ؟!
لتسلطهم ، تزمتهم ،
قسوتهم ، تصلبهم ، رعونتهم ،
إحتكارهم للحقيقة ، مصادرتهم للمستقبل ..
مالهم
يكبلون أبنائهم ، بأغلال الوصاية ،
يخنقونهم بقفازات الحرص على المصلحة ،
يذبحونهم بسكين الخوف من الخطأ ،
من الفضائح ، من كلام
الناس ،
يسحقون
غرائزهم ، بإعتبارها مصدرا للعار والمشاكل ،
وكأنهم كانوا يتمنون أن ينجبوا دمى من
خشب ،
فلا يحملوا هما لنزوات
أوغرائز ..
لأب متغطرس متسلط
واحد ، أخطر على المجتمع ،
من
قنبلة ذرية ، فالقنبلة تقتل الناس فيستريحون ،
أما الأب الظالم فلا يترك أبنائه
يحيون أحرارا فيسعدون ،
ولا يتركم يموتون ويستريحون ..
فهاهو جدي ، الرجل
الوقور الكبارة ،
الحاج المتدين
المحافظ ،
الذى
يقدس الأصول ، ولا يعرف العيب ولا يقبله ،
الذى ترفع له الأكف بالتحايا كلما
راح وجاء ،
يتكلم فيسمع له
، يدعو فتلبى دعوته ،
بتزمته وتسلطه ، خلف
وراءه أسرة مفككة محطمة ،
من أم تخلت عن
دورها ،
وأسلمت نفسها
للسلبية والجبن خوفا من الطاغية ،
لتصبح كأى قطعة أثاث بالبيت ،
لو ذبح أحد أبنائها
، فلا صوت لها ، ولا رأى ،
وأربع
أشقاء بشوارب ، لاتحس منهم من أحد ،
أو تسمع له ركزا ..
كأبي الذى لم أشعر
بوجوده يوما ،
وأمى التى لم
أرها إلا نائمة ،
ترى لو لم تكن لى
هذه العمة ، ولم أكن لها ،
فكيف كنا سنحتمل هذا الضيم ؟!
تهب عواصف الحراك
الرباني ،
ويلحق أثنين من أعمامي بأبي ،
القابع بالكويت
منذ أن وضعت الحرب أوزارها ،
واندفعت عجلة
السلام بالمنطقة ،
ولم يبقى معنا
بالبيت ، عقب وفاة جدي ،
سوى أمى ، وعمي
الأصغر ، محسن ، وجدتى ،
الذين لم يفرق وجودهم
يوما ، من عدمه ..
بإنقضاء أربعين
الأب ، تخلع عمتى السواد ،
وتحرن
على الذهاب إلى الكلية ،
وتنقل ماكينة الخياطة إلى
غرفة الإستقبال الخارجية ،
وتفتح بابها المطل على مدخل البيت ،
معلنة لصويحباتها ،
وللأقارب والجيران ،
إفتتاح
أتيليه منى للأزياء ..
ليمتلئ البيت
وينفض من البنات والسيدات ،
وترن فيه زغاريد أقارب وأمهات كل عروس
،
تتسلم ملابس جهازها ، وتستقبل الداخل إلى البيت ،
لعلعة ضحكات
الزبائن ، وتداخل طلباتهن ..
من تضييق وتوسيع ، تقصير وتطويل
،
حرد وكشكشة ،
إستعجال قى التسليم ..
بصوت
هدير الماكينة ، ورنين المقص والتليفون ،
وأغاني الأفراح ..
بدت فى أول الأمر
ساهمة حزينة ،
تستغرب تصاريف القدر ..
زغاريد
تملأ البيت ، لكن ليست لعرسها ،
قمصان نوم قصيرة ومثيرة ،
حمراء وصفراء ،
فاقع لونها
، تتفنن فى تفصيلها ،
لتلف أجساد
تتلذذ ، ويصوم جسدها ..
لكنها مع الوقت
صبرت نفسها ، تظاهرت بإقتناعها ،
بأن
الونس برائحة الفرح ، أهون من فواته كله ،
ثم لعل الفرح يدخل يوما ، من بين
أرجل العرائس ،
أو فى دوشة
الأغاني والزغاريد ، لعله فأل حسن ..
تغيرت
وجهة مشاويري ،
لتتجه نحو
محلات الكلف والسوست ،
الأزرار والخردوات ، والمكوجي والرفا ،
والمصبغة ، وورشة صيانة
الماكينات ..
فى عز إنهماكي
بمشاويرها وطلباتها ،
وسرحانى
فى همها ، تدفعنى سيارة عابرة ،
لأنكفئ على وجهى فوق الرصيف ،
يهرع المارة ، وجلساء
المقاهي ، وأصحاب الدكاكين ،
يتوزعون بين الإطمئنان علي وتنفيض ثيابي ،
وبين لومهم وتقريعهم لصاحب السيارة
،
ليتخطاهم متجاهلا
، مقبلا نحوى ..
فأكتشف أنه
الأستاذ بهيج المحامي ،
زميل عمي أيمن ،
الذى لحق بأبي إلى الكويت ..
معاتبا
، يبادرني ، ماسحا التراب عن راسي ،
لاتمشى وأنت سرحان مرة أخرى ،
وسط همهمات الجمع
، سليمة إن شاء الله ،
كل واحد لحال سبيله ،
هيا
بنا ، أوصلك إلى البيت ..
من باب الأتيليه ،
المفتوح على مدخل البيت ،
ما أن
تلمحني ، أنزل من سيارة الأستاذ بهيج ،
متعكزا ، أستند على كتفه العريض ،
حتى تندفع نحوي
كالمجنونة ، وعمى محسن فى إثرها ،
لتأخذنى بحضنها ..
صارخة بوجه بهيج
: ماله الولد ، ماذا حصل ؟!
بحلقته
بها ، تنبهها أنها لم تزل حافية ، وأن شعرها ،
لم يزل منسدل على أكتاف الروب الحريري الذى تلبسه ،
فيسكتها الخجل ، وتنسحب
إلى غرفتها ، ويهدأ روعها ،
بهدوء بهيج ونظراته الرجولية الواثقة ،
ووقوفى أمامها على قدمي
بحالة جيدة ..
يصر عمى محسن ، على غير
عادته ،
أن يمسك
بالأستاذ بهيج ،
ليستريح قليلا
ويأخذ قهوته ..
الأمتار العشر ، التى
تفصل المدخل عن الصالون ،
مرورا بباب
الأتيليه المفتوح ، كانت كافية لبهيج ،
ليجري بعينيه النافذتين اللامعتين ،
اللتان تشعان
لماحية وذكاءا ، مسحا شاملا للمكان ،
بتفاصيله وناسه وأشيائه ..
ليجلس
مستقيما ، بصدر الصالون ،
كاشفا عن إمكانياته
الرجولية ، قامة عريضة ،
شعر غزير لامع ، منسحبا
بعناية إلى الخلف ،
ليغطى
ياقة قميصه ، هندام أنيق ،
حذاء أسود ، ذو رقبة طويلة يبرق ،
فراسة بادية ، لا تخلو من خبث ..
تعود عمتي بعد
قليل ، بهندام أنيق محتشم ،
حاملة صينية ، عليها أكواب
ليمون مثلجا ،
فتتسمر
مكانها ، ناظرة إليه من أسفل إلى أعلى ،
نفاذ أشعة عينيه الساحرتين نحوها
، أربكها ..
تفضل حضرتك ، نورت
..
بهيج ، أنا بهيج
المحامي ، زميل الأستاذ أيمن ..
تشرفنا ، اسمح لى
أن أشكرك على شهامتك ..
العفو ، فلم أفعل
غير الواجب .. عفوا ،
هل سيضايقكم أن أدخن ؟!
على الرحب ، تفضل
..
قبل أن يتحسس عمي
محسن ملابسه ،
بحثا عن سجائره ، يخرج بهيج البايب ،
يحشوه من كيسه ، تبغا زكي
الرائحة ،
يشعل
عود ثقاب كبير ، يكفى لحريق القاهرة ،
يدس النار فى فوهة البايب ..
ألمحه يرقب عمتى بنظرة
غير مريحة ،
أقرب
إلى الطمع ، منها إلى الإشتهاء ،
إن لم تكن
خليطا بينهما ..
يسحب دخان
البايب ،
لينفثه على دفعات كثيفة متلاحقة ،
بدا وسطها وكأنه جني خرج
من قنديل ..
تتشاغل عمتي عنه ،
بإحتضاني والمسح على رأسي ،
تسقيني بيديها الحنونتين ، رشفات من عصير الليمون ،
هامسة
: سلامتك ألف سلامة ، ليتني كنت أنا ..
ليتدخل بهيج :
بعيد الشر عن حضرتك ياست الكل ،
ماشاء الله ، أنتى شابة جميلة ، تبدين وردة ناضرة
..
لم يوقفه خجلها ، وإحمرار وجهها ،
وقبل أن تفكر فى الإنسحاب
..
يستطرد : ما
تظهرينه لأبن أخيكي من حب نادر ،
أثر في كثيرا ، ليتني أجد من يحبني
هذا الحب ..
يمتقع لونها لفرط
إندهاشها من جرأته ووقاحته ،
وتكاد
تميز غيظا من عمى محسن ، الجالس كاللطخ ،
دون أن يتدخل لإنهاء هذه الزيارة التى
طالت ، بلباقة ..
تنتصب واقفة :
أشكرك على المجاملة اللطيفة ،
وقبل
أن تخرج من الباب ..
يلاحقها : على
فكرة أنا لمحت عند دخولي بيتكم العامر ،
أتيليه وماكينة خياطة ، أهما لحضرتك ..
ضجرة ، تهز رأسها
بالإيجاب ..
ليحكم حصاره حولها
، قائلا :
لكن
الماكينة التى رأيتها صارت قديمة ،
يوجد لدي ، ماهو أحدث ، وأكثر
تطورا منها بكثير ،
أنا تركت
المحاماة ، وأعمل الآن بالإستيراد والتصدير ،
بين لبنان وليبيا ومصر ،
اسمحى لي أن
أحضر لحضرتك أحدث الماكينات اليابانية ..
تنصرف معتبرة أنها
مجرد دردشة ،
ترد بإبتسامة زائفة : أشكرك جدا ..
لم تنم ليلتها ،
ولا أنا ..
من
شدة إندهاشها وحيرتها ،
من أمر
هذا النسر القوي ، الخبير المتمكن ،
الذى حط بليل ، على عشها
الصغير المهلهل ،
المليئ بالجراح ، الذى أقترب
بمخالبه المخيفة ،
من
قلبها المتلهف على الحب ، من روحها العطشى ،
فأوشك أن يجتاحها بجرأة
، قل أن تصمد أمامها امراة ،
لاسيما إذا كانت من نوعها
الذى يضعف ،
بل وينهار
تماما ، أمام الرجولة الطاغية ،
والحضور الأنيق ، النظرة المقتحمة
، واللسان الحلو ،
ما أن تراني ، فى ليل
أو نهار ،
إلا وتمطرنى بعشرات
الأسئلة عنه ..
أصحبها إلى محل الخردوات
، لبعض لوازم الأتيليه ،
ثوان ، ونجد سيارته تقف أمام الباب ..
صباح النور ، رأيتكما
مصادفة ،
قلت
أوصلكما ، إن لم يكن لديكما مانع ..
مطرقة ، مرتبكة :
أهلا ، صباح الخير ، شكرا لحضرتك ،
لم يزل لدينا الكثير من المشاوير ،
لأسمع أول دقة بقلبها
، وأرى أول رجفة بشفتيها ،
يكاد
قلبي ينخلع خوفا عليها من تسرعها ،
وإندفاعها وراء من يبدى لها إهتماما ،
ويعرف كيف يدغدغ مشاعرها المتأججة
،
كجذوة لاتخبو ..
نقطة ضعفها
القاتلة ، تكمن فى عشقها للجمال ،
والتأنق
وعذوبة الكلام ، فى تلهفها الطفولي ،
للإرتواء من الحب ..
لم تمضى أيام
قلائل ،
حتى
تتوقف سيارة بهيج أمام المدخل ،
وتحل ماكينته
اليابانية الحديثة ،
مكان ماكينتها ،
التى صارت قديمة ،
ويزداد ضغط بهيج ،
الذى لم أزل غير مطمئن له ،
على أعصاب
عمتى الهشة ، حتى تنهار مقاومتها ،
هكذا عرفتها ، ما أن يطلق قطار عشقها ،
فلن يقدر على إيقافه أحد
، ما أن تنبهر بأحد وتفتن به ،
حتى تسد عينيها وأذنيها عمن سواه ،
ويصبح ألد أعدائها ..
النصيحة ،
ولا
تتلقى دروسا ولا عبرا ولامواعظ ،
إلا من النهايات
المأساوية ..
تتمسك جدتي وعمى
محسن ومن ورائهما أمي ،
بأن نكتفي بقراءة الفاتحة لحين إنقضاء سنوية جدي
،
ليبدأ بهيج فى لف لسانه ، الذى يقطر عسلا ،
من سحر هاروت وماروت ، حول قلب
عمتى ،
فتعشقه وتتيم
به ، وكانه سحرها أو أسكرها ،
وسرعان ما يعرف كل صغيرة
وكبيرة ، عن ميراثها ،
ومكاسبها من الأتيليه ومصاغها ،
وحسابها بالبنك ..
تكاد تطير من
الفرح ، وهى تحكي لي بفخر ،
أن
بهيج وافق ، بصعوبة ، أن يستثمر لها أموالها ،
فى
تجارته بلبنان ، وسيشترى فيلا بإسمها ،
أما السيارة الفورد الجديدة التى
سيحضرها معه ،
فستكون أقل هدية ، يضعها
تحت قدميها الصغيرتين ،
ليكبش بهيج كل شيئ ، ويغطس ، كفص ملح ذاب ..
أرقبها متكورة
تتلوى ، تخرج روحها كل يوم ألف مرة ،
متلهفة على خطاب منه ، يبلل شفاه قلبها
المتشققة ..
من ذوب قلبي
إشفاقا عليها ، هداني تفكيري ،
أن
أكتب لها بيدى اليسرى ، جوابات غرامية ،
وانفح العم زاهر البوسطجي جنيهان ،
عن كل خطاب يأتى به إلى
البيت فى حضوري ،
لأسلمه
لها ، على أنه من بهيج ..
يا إلهى ، كم عذبني
ضميري ، وأنا أرى قلبها يرقص ،
فرحا بأول جواب غرامي ، بثها فيه بهيج ،
أعطر كلمات الحب ،
وأسمى آيات العشق والوله ،
التى نقلتها بيدي
من قصص إحسان عبد القدوس ،
وأشعار نزار قباني ..
تضم الجواب
إلى صدرها وتقبله ،
تود لو تذيع كلامه بنشرات الأخبار
..
لم يكتب لى
عنوانه ، يقول إنه كثير التنقل ،
آه لو يكتب لى عنوانه ،
سأعلمه أنا
كيف يتكلم عن جنون الحب ،
ويكتب فى عذاب الغرام و
العشق ..
ثلاثة
أشهر تتغذى على رحيق جواباتي ،
التى يحضرها العم زاهر
إلى البيت فى وجودى ،
كلما
شكت لى شدة شوقها ولوعتها ،
من تأخر الجوابات
..
وبينما أصل الليل
بالنهار ، إستعدادا لمادة الكيمياء ،
أخر مادة بإمتحان الثانوية العامة ..
تصل رسالة مشؤومة ، من
عمى أيمن ،
من الكويت : بلغنا أن المدعو ، بهيج ، قد زاركم ،
وأنكم قرأتم
فاتحته على منى ،
دون حتى أن تكلفوا
أنفسكم عناء مشاورتنا ،
نرجو بمجرد أن تصلكم رسالتنا ،
أن تقطعوا كل علاقة به ،
فهو
نصاب محترف فى خداع الجميلات من ذوات المال ..
لتنفجر قنبلة
المفاجآت وتتناثر شظاياها ،
ويعرف الجميع بأمر المال الذى
ذهب إلى لبنان ،
مع بهيج للإستثمار
، ولم ، ولن يعودا ،
فلبنان وهم ، والإستثمار وهم ، وبهيج أكبر وهم ..
ويستيقظ ضمير العم زاهر
البوسطجي ،
فيسر
لعمي محسن ، بأمر الجوابات ..
تضيع محاولاتي
لشرح موقفى لعمتى ،
أو
لما بقي منها بعد إنهيارها ، هباءا ..
كل العذابات هانت
عليها ،
إلا تعذيبي
لها بالجوابات الغرامية الوهمية ،
بدت كمن دخل الجنة ورتع بها
وذاق نعيمها ،
ثم أفاق
على نفسه فى قعر الجحيم ،
فتقطع قلبه حسرات ..
حتى
نظرت لى نظرة طويلة عميقة ،
حكت فيها رحلتنا معا ،
احتضنتى
وقبلت رأسي ، وأغلقت الباب دوني ،
لتلف البيت كله فى عباءة الصمت ..
عدت من الإمتحان ،
لأعرف
أنها تحينت ذهاب جدتي وأمي ،
وعمى محسن ، لزيارة قبر جدي ،
وأصرت أن تغير
أنبوبة الغاز بنفسها ،
يبدو أن الأنبوبة كانت
تالفة ،
فانفجرت ببيت أبيها ، وبالأتيليه ، وبها ..
قبل أن تغادر مزجت
الهواء الذى أتنفسه ، بأنفاسها ،
زينت الحيطان من حولي ، بصورها ،
زحمت الدروب التى أسلكها ، بطيفها
،
ضمخت روحي بعطرها ،
فلم أعد أخطو خطوة ، إلا صادفتها ..
إثنا عشر كيلومترا ، مشيتها على قدماى ،
لم تجف لى دمعة ،
لأجثو
على ركبتاي أمام قبر جدى المجاور لقبرها ،
فلم أجروء أن أجلس أمام قبرها ،
أو أن أرفع عيني
أمامها ..
أخاطب جدي ،
وكأنى
متهم فى قفص محكمة ،
يتوسل شاهدا ليبرأه :
ماقولك
ياجدي، فيما تقوله عمتى منى ،
من أننا قتلناها ،
تقول
أننى قتلتها بحناني ،
بالله
عليك ياجدي :
من قتل
عمتى منى ؟!
ترحل منى ,,, ويبقى السؤال , من ,, قتل ,, منى
ReplyDeleteمساء الخير والإبداع والفن الراقي أستاذنا الروايه رائعه الشخصيات خماسيه أوسداسيه الأبعاد لنكاد ان نلمسها ونسمع صوت انفاسها،الرساله عبر دراما قويه رائعه مؤثره وغير مباشره تلمس أغلى مانملك العائله والأبناء والسؤال التاريخي بين خوف وحرص وحريه خوض التجربه،الإنسيابيه عاليه والدخول والخروج بين الشخوص والمكان مريحه لا أدري هو لتعودنا على الأسلوب أم نوعيه الروايه أم هي الإجاده والتمرس؟!في المحصله إستفدت جدا على المستوى الشخصي والرساله وصلتني ولمستني وأعتقدأنها من الروايات التي تبقى في الذاكره شكرا مبدعنا وأديبنا .
ReplyDeleteبالإضافه للمتعه الأدبيه القصه لامست جانبا حساسا في علاقات الناس الأسريه والعائليه وتربيه الأبناءوأظهرت السؤال الكبير في كل بيت عن حدود شبكه الحمايه التي نظلل بها الأبناء وحقهم الطبيعي في الحريه وتكوين تجربتهم .. القصه ممتعه بحدذاتها وانت تقرأ تضحك وتحلم وتندهش وتغضب وتتألم وتبكي في ثلاث صفحات مع رساله غير مباشره تماما شكرا ودوام الحمد لله
ReplyDeleteلا اجد ما يمكن ان اصف بة هذة الرائعة الا انها بحق تمثل الواقعية التى يجب ان تكون ومن رشاقة الحرف ورهافة الحس و انسجام المعنى انها ابداع مبدع ما نخال منة الا هذا المستوى فهنيئا لنا وننتظر المزيد
ReplyDelete