3- عطر الثامنة ..
أذا أردت قبسا من نور، يأتيك آناء الليل وأطراف النهار، يملؤ جوانحك ،
فيمدك بالأمل ويزينك بالعلم ويدفعك للعمل ، ويجنبك الزلل ، ويكفيك مؤونة دنياك وآخرتك فى اليوم والليلة ،
فيكفيك أن تنصت خاشعا الى تلاوة ماتيسر من القرآن فى السادسة صباحا أوالثامنة مساء
أحدهما أو كلاهما ، مع تقدمتيهما على الأذاعة المصرية ، وأسأل محبا شغوفا !
تنبهت مسامعي وأنتشى قلبى، وأنا بعد فى حجر جدي الحبيب ، رحمه الله ،
على أصوات كنوز علماء الأمة يقدمون التلاوة فى هذين التوقيتين المباركين ،
الشيخان الشرباصي والغزالي ود.البهى وسيدي الشيخ عبد الحليم محمود ، وغيرهم من أسيادي العلماء الأكابر،
وعشت لأهنأ اليوم بأسيادي الشيخ محمود محمد عمارة والشيخ محمد الراوي ،
حتى أضحت أحاديثهم فى تقدمة التلاوة من مكونات ثقافتي !
أما أسيادي من درر وكنوز القراء ، فقد كان جدي متيما بهم حتى حفظت عنه أسمائهم ومواعيد تلاوتهم !
أنتظر بشغف يوم الأثنين لأشنف آذاني بصوت شيخى المعجزة الربانية ، الشيخ محمد رفعت ،
والأربعاء الشيخ الرقيق الحنون محمد صديق المنشاوي ،
والجمعة عشقى الأكبر لرمز الفخامة والعظمة والجمال الشيخ مصطفى أسماعيل ، وهكذا ..
أدخلنى جدي بستان سماع التلاوة وارف الظلال طيب الثمار ،
بل وغرس فى قلبي حب المساجد والوله بمعمارها المتعبد المتبتل ،
وبزخارفها ونقوشها وخطوط الآيات على جدرانها الذاكرة المسبحة !
يصحبنى جدي الى مسجد سيدي أبو الفضل الوزيري ، ريحانة مدينة المحلة الكبرى ،
أدلف من بابه المهيب فكأني فى الجنة، يضمني المسجد بحنان كما يفعل جدي الحبيب !
أخطو على سندسه الأخضر متهيبا وجلا ، من روعة وبهاء ونورانية محرابه ، يخيل الى أننى لو دخلته لأحترقت !
سبحان الله ، حتى اليوم وبالرغم من مرور أكثر من أربعين عاما، كلما سنحت الفرصة وزرت المحلة ،
أمشي فوق سجاد مسجد سيدي أبو الفضل وجلا ، وأتهيب الأقتراب من محرابه !
أول مرة أرى فيها " الشيخ زغبي " مؤذن المسجد و عندليبه الصداح ، صديق جدي الحبيب ،
أقبل علينا من غرفته الأنيقة فى آخر المسجد ، طويلا رشيقا ، مهندما مهيبا ، منتصبا مشرئبا كأنه مأذنة تمشي على الأرض !
ينطلق صوته قويا ، وينساب حانيا ، عميقا فخيما ، خاشعا جميلا ، فتغشى السكينة كل من يسمعه ،
حتى كنيسة المحلة المحاذية للمسجد ، أخالها تخشع لجلال أذانه فتعلوها المهابة !
تعلمت من الشيخ زغبي مقامات الأذان ، بم يدخل وكيف يرتقي حتى يسكن وينتهي بختام من مسك ،
أخذت عنه التأنق والأنفة ، وعشقت الجمال ، جمال الصوت والصورة والموسيقى واللحن
هو ومسجد سيدي أبو الفضل وجدي الحبيب ومشايخ قراء الأذاعة رحمهم الله ورضى عنهم ،
أشعلوا جذوة حب الحق والخير والجمال فى قلبي ، فلم تخمد من بعدهم قط !
آه ياجدي ، غمستنى فى عطرهم ورحت وتركتني وحيدا يتيما حائرا لايروي ظمأي فى زمن العولمة الزائفة شيئ !
سقيتني من كؤوس مساجد المحلة التى كانت مترعة بليال النور والأيمان والعلم والحب ،
كم رتعت فى فيحاء جامع أبي الفضل ، من سماع تلاوات السادة القمم العوالي من المقرئين
ودروس علم الحجج الشم الرواسي من العلماء العاملين !
أدلف بصحبة جدي ، من أول شارع أبي الفضل ، نلقى نظرة على مآذن سيدى أبو الحسن وسيدى عبد ربه ،
وكأنها أصابع سبابة موحدة ،
نيمن بجامع الروازقية فأبى بكر فالأمام ، والصياد وسيدي المنسوب ،
عن اليمين والشمائل سجدا لله ،
حتى نصل الى جنتي ، سيدي أبو الفضل ،
ثم نخرج منه لنستأنف المسير فى مسارات النور والجلال ،
حيث جامع المتولى الكبير والعجمي وولى الدين وسيدي عطاء الله والعباس ،
وسيدى المحجوب وعاصي والحنفي وآل طه وقادوس والباشا ،
والتوبة وجاويش وأولاد جبير ثم الغمري وسيدي الششتاوي ،
نتابع آيات قرآن الثامنة تترى من مذياع مقهى الى مذياع دكان ،
لايفوتنا منها شيئ حتى تنتهى التلاوة ،
ولاتنتهى الحلاوة ،
حلاوتها فى قلبي وعقلي ووجداني !!
4- لست أخوانجيا ولا طائفيا
لست " أخوانجيا " ، بل أرفض تلك التسمية وأتحفظ عليها ، لمذاقها الأمني المر !
فقط أؤمن بالفكرة الأسلامية الوسطية ، التي تلقيتها بداية من فكر الأمام الرائد المجدد محمد عبده ،
مرورا بالشيخ محمد الغزالي ، وصولا الي الشيخ يوسف القرضاوي !
مع حرصى على الأنفتاح على كل الأفكار والأتجاهات ، والنهل من نبع الفنون والقراءات
فمكتبتى فيها سيد قطب ، والرافعي ، نجيب محفوظ ويحي حقي ، جلال أمين والمخزنجي ،
خيري شلبي وابراهيم عبدالمجيد ، صنع الله ابراهيم وجارسيا ماركيز، تولستوي والغيطاني،
جورج أورويل وبهاء طاهر ، نزار واقبال ، درويش والمتنبي ، جاهين ودنقل ،
عادل حسين وجمال حمدان والبشري ، العوا وعمارة وعبدالوهاب المسيري ،
حسن البنا والعقاد والمودودي ، وهكذا..
لست طائفيا ولاعنصريا ، فقد رضعت لبان التسامح والعيش المشترك منذ صغرى ،
حيث نشأت وترعرعت فى حى "سويقة الأقباط " ، بمسقط رأسي ، بمدينة " المحلة الكبرى" الحبيبة ، مدينة الأحرار التى صنعتنى !
فكم لهوت صغيرا ورتعت فى ربوع مسجدي الحبيب الذى كنت أعتبره أبا حنونا لي ، مسجد سيدى أبو الفضل الوزيري ،
والذى ينتصب شامخا قبالة كنيسة الأقباط الأرثوذكس الرئيسية بالمحلة الكبرى ، بسويقة الأقباط !
وتعانقت فى عيني صور المعبدين ومنارتيهما ، سامقتان مشرئبتان ،
تعلوان وترتفعان على كل ضغينة وشقاق ، وتترفعان على كل غل ونفاق ،
وأمتزجت فى مسامعي أصوات تسابيح المسجد وتلاواته وأذانه ، مع أنغام ترانيم الكنيسة وأجراسها ،
وتغذى وجدانى على أختلاط العابدين ، الغادين والرائحين ، متعاطفين متراحمين ، لاأثارة من شيئ فى الصدور !
أشترى أدواتى المدرسية من العم "أسحق" وأخيه "بولس" ،
والفلافل المحشية " المشطشطة " من العم "جبران" ،
وأفخر جبنة قديمة من العم "وليم" ،
والكلف والخردوات لآمى من العم "جورج" ،
والدواء من أجزخانة "وصفي" أو " د. فخر" ،
ولاتستريح أمى، ولا الأسرة كلها ، من مشاكل أسنانها ،
الا بين يدي الدكتور" بشارة " ، الطبيب الرائد الأنسان !
وكل هذا فى كفة ، وأستاذي الحبيب وصديق عمرى ، الحنون الراقي الجميل ، الأستاذ "مجدى ولسون" ،
الذى كان منارة حيينا ، كم حدب علينا صغارا ودللنا ، ودافع عن شقاوتنا ضد عواجيز الفرح !
كانت أسعد أوقاته تلك التى يجلس فيها بجوارنا ، وكأنه حارسنا الأمين ، ولم يكن بيننا ولد مسيحى واحد !
يستذكر لنا دروس الرياضيات ، و مس" ليلى" السيدة الفاضلة زوجته ، الأنيقة المحتشمة ، تساعدنا فى اللغة الأنجليزية !
أذا كان فى الحى عزاء ، يهرع عمو "مجدي ولسون" لأنهاء ترتيبات الفراشة وتصريح الدفن ، ويشترى البن ،
ويقف منتصبا فى صف أهل الميت يتلقى العزاء ، ويجلس منصتا للقرآن فى أدب وخشوع
يستحى أن يشعل سيجارة ، ويكون آخر المنصرفين !
وهكذا شأنه فى أفراح الوطن والحى وأتراحه ،
لم نشعر يوما أنه مختلف عنا ،
لا فى طعامه أو ثيابه ، ولا في سحنته أو لسانه ،
ولاحتى فى أسماء أولاده وبناته ، فلا غرو أن نشعر وكأنه أب لنا !
ولاتتقادم بداياتى ، بل يبقى طعمها فى قلبي ، وأنطباعاتها وشما فى سلوكى ،
وميثاقها مكتوب على جدارن مخيلتي ، كنقوش فرعونية !
فعلى مدار العمر كم صاحبت قناديل مضيئة من أخوانى المسيحيين ،
من خيرة أبناء مصر ، علما وخلقا وعملا ،
منزوعى التعصب والطائفية ،
ممن أستعصوا على السقوط فى بئر التعصب السحيق !
كتبت تلك النبذة المختصرة ،
علها تسهم فى توضيح مدى الألم والحسرة التى تعترينى ،
خوفا من انهيار الحلم الجميل الذى عشت عمري هانئا به ،
مع أبناء وطني عبر السنين !
لتهب رياح الطائفية السموم ،
تشحن النفوس وتشق الصفوف وتخطف منى أخوانى ورفقاء صباى !