على أطراف حيينا ، حيث الفضاء الفسيح ،
تتمدد شمس العصاري في البراح ،
لتلتقط أنفاسها ، وتجفف عرقها ، من
كد ظهيرة لاهبة ،
تتغافل عنا ، استعدادا لمشوار
المغيب ..
لنبدأ لعب الكرة ، والشجار ، والشقاوة !
ألمح ولدا يبدو في مثل سني ، يرقبنا من بعيد ، في توجس وخجل ،
يبدو طويلا نحيلا كعود قصب ، سماره
لامع ، عيناه طيبتان ، ثيابه نظيفة ..
أنزع نفسي من حومة اللعب ، لأقبل
عليه بترحاب ،
انت جديد هنا ؟!
يهز رأسه بالايجاب !
اسمك ايه ؟!
بصوت خفيض ..
فتحي ، من أسوان .. لسه واصلين الفجر ، بيتنا اللي هناك ده ..
يشير الي سور غير بعيد ، من الطوب
الأحمر ، أحاط بقطعة أرض صغيرة ،
في ركن قصي منها ، بناء من الطوب
الأحمر أيضا ،
سقفه من جذوع الأشجار ، يبدو أقرب الي الكوخ !
يستطرد .. والدي يعمل بالشركة الكبرى ، اصطحبنا لندخل المدرسة هنا ،
وأنت في سنة كام ؟!
أولى اعدادي ، هاروح مدرسة الثورة ،
يعني زمايل ، أنا كمان في نفس السنة والمدرسة .
تعال العب معانا ، واعرفك على اصحابي ،
المرة الجاية ، زمان والدي رجع !
ذهب فتحي وترك أثرا في قلبي ،
ليس كبقية الأولاد ،
هادئ خلوق ، مهذب نظيف ، محياه يشع ذكاءا !
أذهب اليه ، في اليوم التالي ، ليشاركنا اللعب ،
أقترب من بيتهم مناديا ، أطرق
الباب الخشبي المتقادم ،
ليرد فتحي من خلفه ، بخشوع راهب في صومعة .. حاضر ،
يفتح الباب بالكاد على قدر خروجه منه ، ويسحبه خلفه بهدوء ،
ونمضي .. يلاحقنا صوت حنون ..
تصلي العصر وترجع يا فتحي .. حاضر !
متلهف أنا للتعرف على فتحي وأسرته الهادئة الوقورة ،
هو أيضا يبدو محتاجا للحكي ،
وان لم يتخلص بعد ، من تحفظه
الجنوبي المتأصل ،
فتحي أكبر أخوته ، فبعد أن أتم من عمره سنة ،
تبعه ، أخوان : محمد و مصطفى ،
وأختان : فاطمة وزينب ،
على التوالي ، يفصل الواحد عن الآخر سنة ،
فيبدو أن أمه كانت تحمل عقب كل أربعين ،
بالرغم من زواجها في الخامسة عشرة
من عمرها !
أبي ، يكبر أمي بكثير ، يحكي لي فتحي ..
هو ابن عمها ، ماتت زوجته الأولى ،
وكانت عاقرا ، فثنى بأمي ،
تخرج في المدرسة الصناعية ، يعمل
هنا عملا فنيا دقيقا ،
أما أمي فلأن أبيها ناظر المدرسة في بلدتنا ، فهي ( شاطرة ) ومتعلمة ،
أكتفت بالأعدادية لتلحق بأبي .. هي
لاتكف عن القراءة ، وكتابة الخط العربي الجميل ،
لاتفتأ تكررعلى مسامعنا : من يستقم لسانه وخطه وعقله ، ربنا يوفقه و يحبه !
تجهد لتذاكر معنا ما أستطاعت استيعابه ، من موادنا الدراسية المختلفة ،
تلك متعتها الحقيقية !
يبدو لي بيتهم ( حوشهم ) من الخارج ،
كصومعة عبادة ، من فرط الهدوء الذي
يلفه ،
ثكنة عسكرية ، من جدية النظام الذي
يحكمه ،
محضن علم وتربية ، من غلبة
الأجتهاد والأدب والنظام !
يهل علينا شهر رمضان ، لتزيدنا لياليه ونفحاته اقترابا وألفة ،
ما يلبث العام الدراسي أن يبدأ ، حتى لحقت به ، حرب العاشر من رمضان ..
صوم ومدارسة وحرب ..
أجواء ساهمت في رسم صورة نورانية ،
غمرت وجداني عن فتحي واسرته ،
والده ، الذي يقبل منتصبا مستقيما كمسلة فرعونية ،
يبدو عاملا بجد ، متدين ببساطة ، قوي بتواضع ،
حازم بحنان ، باسم بوقار ، صامت
بحكمة !
أما ، أم فتحي ، فهي نخلة البيت ،
سمراء سامقة ، أصلها ثابت ،
ظليلة ، ظلها وارف ،
معطاءة ، عطاؤها غامر !
أما الأبناء ،
فلاتراهم الا نظيفون نشيطون ،
كصحبة ريحان ،
يبدون وكأنهم في معسكر دائم
للكشافة ، لاينفض !
مدربون بعناية وحزم ، كل يعرف دوره ،
يقدم عمله على كلامه ، لاتسمعهم
الا همسا ،
يضعون أمهم دوما ، نصب أعينهم ، بانتظار أوامرها وملاحظاتها ،
التي تبديها غالبا .. بنظرة من
عينيها اللامعتين !
في ليلة السابع والعشرين من رمضان ، ضمنا المسجد ،
فرحين بالنصر، مترقبين ليلة القدر ،
وبعد أن صلينا الفجر ، لمحنا
الصغيرة زينب ،
بباب المسجد ، خجلة مرتبكة ،
تنتحب و تشير ناحية أخيها فتحي ،
هرعنا اليها ، لنتلقى صدمة وفاة
والدهم ، رحمه الله ،
غادر فتحي ، مصطحبا أخته في خشوع وصمت ، وكأنه كبر للتو ، وصار أبا !
ليبدأ شوط جديد في حياة تلك الأسرة
المجاهدة ..
لم نسمع لأم فتحي صوتا ، لم تلطم خدا ولا شقت ثوبا ،
بدا الأمر وكأنها أعلنت مع حدادها
، الذي يبدو أنه ، سيصبح أبديا ،
حالة في البيت أشبه ما تكون ،
بالتعبئة العامة !
لم تضيع وقتا ، أستغلت أجازة العيد ، وتوقف الدراسة ، لأجواء الحرب ،
لتتشاغل عن مأساتها ، وتشغل أبنائها عن أول عيد لهم ، بلا أب ،
فتقرر انجاز أول أعمالها البطولية ، كأرملة ، بأن تستكمل بناء البيت ،
عل المرحوم الحبيب يرتاح في نومته
،
وهو يرى أولاده مستورين في بيت
يقيهم نظرة الأشفاق !
دفعت بما توافر لديها من مال ( من الشركة ، ومن بيع قراريط في البلد) ،
الي الحاج عبد الغني المقاول ، جارهم الطيب ،
رفيق المرحوم في الذهاب الي المسجد ، وآخر من صافحه قبل ارتقاءه ،
ليبني لها الدور الأرضي ، غرفة لها
بصحبة البنات ، وغرفة للأولاد ،
والثالثة لمن يهبط من الجنوب ،
فضلا عن صالة فسيحة ومنافع ،
يعلو كل ذلك ، سطح خرساني وسيع ،
تتنفس فيه مع البنات ، في البكور ،
وتجالس الجارات ، في العصاري ،
وتعتني بمؤنة البيت من البط
والدجاج !
أدى المقاول الطيب عمله ،
بوفاء لجاره وصديقه التقي الذي رحل
،
وبأمانة وشهامة لأرملته التي ترك ،
أذهب لزيارة فتحي ، أثناء جلسة تسوية الحساب مع الحاج عبد الغني ،
في حضور فتحي وأخوته ،
يقسم الرجل أغلظ الأيمان ، ألا
يتقاضى قرشا أزيد من تكلفة المواد ،
والتي جاهد ليحضرها بأرخص الأسعار ،
فضلا عن أجرة العمال التي خفضها
معظمهم الى النصف ،
يغمغم منتحبا ..
دا المرحوم كان شامخ أوي ،
سايق عليكي النبي ، تشرفيني أعمل
حاجة لحبات الألماظ دول ..مشيرا الى فتحي واخوته ،
ربنا يكرمهم ، ونشوفهم في العلالي
،
ينصرف مشيعا بصوت أم فتحي الهامس ، بشكر ودعاء!
أعود لأحضر أمي للزيارة والتهنئة بالبيت الجديد ، ضمن زرافات الجارات
المهنئات ،
تقترب من الباب بسيل من البسملة
والدعاء ،
سعيد يانبي ،
اللهم صلي على جمال النبي ،
ربنا يسترك ويعوضك عوض الصابرين ، يا أم فتحي ، يا أميرة ياست الكل ، ياغالية
،
ويخليهملك بحق جاه النبي محمد ،
تهرع أم فتحي منحنية لأحتضانها ، لقصر قامة أمي وسمنتها ،
اللهم صل عليه ، خطوة عزيزة يا ست
أم محمد ،
الله يعز مقدارك ، مبروك ماعملتي ،
أهو كده ، علشان نفسية العيال ،
ربنا يحرسهم ، ويريح الغالي في
تربته بنجاحهم ،
.. تتوقف لتجهش بالبكاء ، لتسيل مدامع أم فتحي العصية ،
تمسح أمي وجهها السمين ، الذي يتصبب دموعا وعرقا ، لتستطرد ..
والنبي ربنا هيكرمك آخركرم ،
تتمتم أم فتحي مطرقة بهمس ، كدأبها
، الحمد لله ،
لتكمل أمي ..
دي الشركة هنا ، بتكفي العامل
وأسرته من كافة شيئ ،
كسوة وعلاج محترم ، مجانا ،
وجمعية تعاونية ، وكل شوية حوافز ومكافآت ،
الحمد لله ، رضا ، مستورة .. ربنا ما بينساش حد .. ترد أم فتحي ،
يالا ، اقعدي بالعافية يا حبيبتي .. تنهض أمي ،
تحتضن فاطمة وزينب ، وتقبلهن ،
وتدس نقوط البيت الجديد ، في أكفهن
السمراء النحيلة ،
الله يعافيكي ، شرفتي وآنستي ، ان شا الله ما اعدمك ،
أستأذن فتحي لألحق بأمي ،
التي لم يزل يتردد صوت دعواتها ، لأم
فتحي وأبنائها ،
أمسك بيدها الحنونة ، لأجد فيها حرارة انفعال وتأثر !
تغشاني الدهشة ،
من أين لأم فتحي ، تلك الأرادة الصلبة ، العملية ، المثابرة ؟!
كيف استطاعت أن تصبغ حزنها .. بالفرح ،
عزاؤها .. بالتهنئة ،
حدادها .. بالحركة والبناء والحياة
!
لم يبق أمام أم فتحي ، الا التفرغ
التام لهدفها المصيري .. تعليم أبنائها ،
لابد وأن تدخر شيئا ، من معاش
المرحوم ،
تحسبا لمتطلبات هذا المشوار الشاق
الطويل ،
نعم التعليم بالمجان ، واجتهاد أبنائها
كفاها مؤونة الدروس الخصوصية ،
وتوارثهم الكتب والأدوات والملابس
خفف من المصاريف ،
الا أن الأيام تحتاج ، ما يخبأ من
أجل عواديها ،
فلا مفر من شيئ من التقشف ،
يعز عليها أن تحرم حبات قلبها شيئا ،
لئن تنام طاوية ، ولاينقص من عشائهم
لقمة ،
ليس لها خيار سوى احتمال الجميع لشيئ من المرارة .. من أجل النجاح ،
ستبذل مافي وسعها ..
ليبدو ابناءها أمام الناس محترمون
مستورون ،
أما خلف باب البيت ، فسنحتمل أية
معاناة ،
آه .. ما أصعبها من معادلة ،
وما أثقله من حمل !
تستأنف الدراسة، أتفقد فتحي في حوش المدرسة ، فلا أجده ،
ربما يكون عند ( الكانتين ) كما
تعودنا أن نتجمع ؟!
يبدو أنه لم يبرح الفصل بعد ،
أتوجه الى فصله متوجسا ..
يستقبلني بمظهره النظيف ، ووجهه
الطيب المنير ،
يجلس منهمكا في دروسه ، جادا
منتصبا متأهبا ،
كتمثال الكاتب المصري ، ولكن في
ملابس الجند ،
يبدو وكأن أمه تدربهم كل يوم ، تدريبا
شاقا لمعركة كبرى ،
كأن مصر تحارب بشعبها لتعبر قناة السويس ،
وأم فتحي تحارب بأبنائها لتعبر قناة الزمن !
.. ليه يا فتحي ما بتحضرش الفسحة ،
ولا بتيجي الكانتين ، وحابس نفسك
في الفصل ؟!
أبدا بذاكر، وحتى لاتتسخ ملابسي وحذائي ،
ألتقط من نبرته الخجولة ، السبب ..
أنه المصروف !
لترفع أم فتحي الحرج عن أبنائها ،
بعد أن اتخذت قرارا مؤلما بتوفير مصروفهم اليومي ، في اطار خطة التقشف ،
أختارت أن تشحنهم بفكرة مواصلة
المذاكرة والأجتهاد ، حتى في الفسحة ،
ليتفوقوا ويصبحوا أطباء وطبيبات !
أقنعتهم ، أن حبل نجاتهم الوحيد هو العلم ، ولاشيء غير العلم ،
ولكي يحوزوا قمة التفوق في العلم ،
فلابد وأن يكونوا أطباء ،
تلك هي قناعتها التي لا تتزحزح !
فالطبيب يظل محترما لحاجة الناس
اليه ، واستحالة استغناؤهم عنه ،
كما أن ثوابه يكون عظيما ، كلما
خدم الغلابة ورحمهم ،
فلتجتهدوا لترسلوا لأبيكم الغالي ،
أكبر قدرمن الثواب !
يبدأ يومها بصلاة الفجر ،
تلبس سواد العتمة المنسحبة لتفسح
للنهار مكانا ، على سواد حدادها الأبدي ،
تتمسح في حيطان البيوت النائمة ،
لتصل الي (حمدي ) البقال ،
دون كلمة واحدة ، تضع وعاءها
اللامع النظيف ، ليسكب فيه ( ماء الفول ) ،
يرفقه بعدد من الأرغفة البلدية ، تكفي اليوم ،
تعطيه قروشها ، وتمضي في هدوء ،
لتلتقط في طريقها ، وعاء الحليب ،
من ( بسيمة ) الفلاحة ،
البيت ( المعسكر الدائم ) في انتظارها ، كخلية نحل ،
البنات لكي الملابس وترتيب غرفتهن
، والتعاون في عقد ضفائرهن ،
يضعن صحن العسل الأسود ، والجبن القريش ، والبيض المسلوق .. على الطبلية ،
بانتظار الخبز والفول ( ماء الفول
) ،
براد الشاي بانتظار الحليب على
النار..
أما الأولاد ، فعليهم تلميع الأحذية و ترتيب أماكنهم ،
تفت الأم قطع الخبز في ماء الفول ، قليل من الزيت ، رشة ملح ،
( تعتقد أن ماء الفول ، هو خلاصة ما في الفول من فائدة ،
دون قشر أو مواد صلبة تربك البطن ، بتسقية خبز الردة البلدي فيه ، مع الزيت والملح
، بالأضافة لجبن القريش ، والبيض ، والعسل الأسود .. وجبة سحرية توارثتها ، تجعل
أبناءها كالخيل ، قوة ورشاقة ، خفة ونشاط وذكاء ، وشبع .. يغنيهم عن التطلع لأي
شيء خارج البيت ) !!
يسكب الشاي مع الحليب ، تكتمل
الطبلية ،
ليتحلق الجميع ، حول طعام الفطور..
( بسم الله ) وابتسامة رضا في وجه الأم ( القائد ) ،
ثم ينفضون .. ( الحمد لله ) !
يتبادلون مناوشات ضاحكة بريئة ،
ملؤها الحب ،
وهم يصطفون كالبيادق ، فيما يشبه طابور العرض ، أمام قائد حازم ،
شعورهم ممشطة ، أحذيتهم لامعة ،
ملابسهم نظيفة مكوية ،
أدواتهم وكراريسهم وواجباتهم أخذت
الأم ( القائد ) تمامها قبل النوم !
يتقدم كل منهم نحو أمه بخشوع ،
ليقبل رأسها ويديها ،
فتحتضنه بعمق ، وتقبله هامسة :
الله يحنن عليك ،
ينصرفون ، بأدب ، تحت صدى
تنبيهاتها الجادة ..
أنتبهوا لدروسكم ، الفسحة في الفصل
،
المرواح والمجيي دوغري ،
ابعدوا عن العيال البطالة ،
طقوس مقدسة لاتتخلف كل صباح ، ظفرت بحضورها مرة ..
عندما طلب مني فتحي ، الحضور ، لتسألني أمه عن ( أخبار المدرسة ) !
أصبح فتحي قليل الظهور ،
كثير الصمت والمذاكرة .. وكذلك
بقية أخوته وأخواته ،
تمر الأعوام وهم يحتفظون بنحافتهم
وصمتهم .. وتفوقهم ،
نصل ، فتحي وأنا ، الي محطة الثانوية العامة ،
ليختار هو القسم العلمي - علوم ،
وأذهب أنا الي الرياضيات ،
حتي يأتي اليوم الذي تتعالى فيه ، لأول مرة ، زغاريد أم فتحي ،
فقد نجح فتحي بتفوق في الثانوية
العامة ،
ليحقق لأمه أول أهدافها ( الأستراتيجية
) ، بدخوله كلية الطب ،
وأنال مناي ، أنا الآخر ، وألتحق بكلية الهندسة ،
تتوالى الزغاريد كل عام ، بنجاح
محمد ، ليلحق به الباقون تباعا،
خمسة عشرة سنة ، وأم فتحي تحمل هم الشهادات ،
خمس متتاليات ، ابتدائية ، ومثلها
اعدادية ، وأخيرا الثانوية ،
لم تذق طعم الراحة يوما ، حتى تحقق أول أهدافها ،
بلحاق أبناءها وبناتها بكلية الطب !
تغيب أم فتحي في حالة نادرة من الوجد والتاثر ،
وتروح في البكاء ، غير منتبهة
لوجودنا ،
تدور في البيت ، وكأنها تبحث عن
زوجها ، لتبشره ،
ناظرة الي السماء .. تتساءل بخشوع
،
كيف حدث هذا ؟!
الهي أنت من فعلت ، أنت من ربيت ،
كم من برد عضنا .. فكان سترك دفئا
،
وكم من حر أضنانا .. فكانت رحمتك بردا ،
وكم من جوع أوجعنا..فكان الأتكال عليك شبعا !
ثم تخر ساجدة ، تسبح في دموعها التي اختلطت بدموعنا جميعا !
تمضي الأيام ..
لأسافر أنا ، الي ( فرانكفورت - ألمانيا ) لدراسة هندسة مباني الأستيل ،
ويظفر فتحي ببعثة للدكتوراة ، في
الجراحة العامة ( بأدنبرة – المملكة المتحدة ) ،
أغيب طويلا ، تصلني من حين لآخر
أخبار أفراح أم فتحي ،
من تخرج وعين معيدا ، ومن أبتعث ،
ومن خطبت ، ومن تزوجت ،
وطوابق البيت التى تعلو ،
ومشاريع أم فتحي الجميلة ، التي
تستحثني أن أعود لتريني اياها !
أعود ، بعد غياب .. الي مصر ،
التي استقبلتني طفلا ، بغارات
الصهاينة ، ابان النكسة ،
والهبت حماسي مراهقا ، بعبور
جنودنا في رمضان ،
لتخيب أملي شابا ، باصرارها على المضي ، الي المجهول !
أتفحص الناس والشوارع ، والدنيا من
حولي ، منقبضا ،
سارحا ، أتمتم ، أما من نقطة ضوء ؟!
لأجدني قبالة بيت ( الحاجة ) أم فتحي ،
أصطحب بناتي ، المتلهفات لرؤية
أسطورة ، طالما حدثتهن عنها ،
امرأة ، صنعت من محنتها ، لبنات ذهبية في بناء مصر ،
أنتزعت من كينونتها ، كل ما يعتري
الأنثى ،
من نوازع واحتياجات ، لتجمعه في
صرة ،
وترسله ، ليسبقها الي قبرها ..
كي تتفرغ لحمل ما كتب عليها ،
مما ينوء بحمله أولى العزم من الرجال !
هاهو البيت الصغير ، قد كبر ، ليصل الي خمس طوابق ..
الأرضي والذي يليه ، مستوصف خيري
نظيف ،
اصطحبتني الحاجة أم فتحي ، بفخر ، لأتفقده ،
وأسلم على ( الدكاترة ) محمد ومصطفى وزينب ،
وقد حملوا على عاتقهم ، تخصيص جزء من وقتهم ،
لخدمة المستوصف ، ودعم الأطباء
الشبان من أبناء الحي فيه ،
.. أدعهم في أنهماكهم وسط الفقراء
،
نصعد الي الطابق الذي يليه ،
ثلثه لسكنها ، والباقي .. حضانة ، ومكتب لتعليم
الخطوط العربية ،
تهمس ، أهو حاجة أشغل نفسي فيها يا ولدي ..
ثم طوابق ثلاث ، لشقق كل من
الدكتور فتحي ، وأخوته ،
ليبقي الدور الأخير ، خصصته لجمعية
رائدة ، لرعاية المرأة المعيلة !
أجلس بحضرتها خاشعا ، تحتضن بناتي ، وترمقني بنظرة دامعة ، ملؤها شجن
الذكريات ،
تتوجه للبنات ، لو تعرفوا غلاوة أبوكم عندي ، زي غلاوة الدكتور فتحي ،
حمدا لله على سلامتك ، ياضنايا ،
فتحي اتصل ، فرح انك هنا ، وهتحضر فرح زينب ، يومين وراجع ، باذن الله ،
فاطمة بتسلم عليك ، اتعينت في طب اسكندرية ،
واتجوزت هناك ، المهندس نور ، ابن
خالها ، ما يتخيرش عنك ،
هيه ، عرفتوا يا بنات ، أن المرأة نصف الدنيا .. أقول لبناتي بفخر !
تصمت أم فتحي برهة ، تطرق متأملة ، ثم ترفع رأسها بهدوء .. لتقول :
المرأة هي الحياة !!