على
أرض (التربيعة) ، هذا الفناء البازلتي العتيق الفسيح ، كساحة كنيسة روما ، الذى يبدو وكأنه سرة كبيرة فى بطن أقدم أربعة
أحياء فى مدينتنا العريقة ، قلب فى جسدها ..
تطل
عليه الأحياء القديمة الأربعة إطلال الحارس من برجه ، تحيطه إحاطة السوار
بمعصمه ، كأنها روافد تنساب من نهره ،
خيوط تشد إلى محوره !
بوتقة
تنصهر فيها طبخة هموم وأحزان ، آمال وأحلام ، أكوام من البشر ، شاءت الأقدار أن
تضعهم فى مواجهة أبدية ..
بين
الغنى والعزوة والعلام ، فى حي (خوخة اليهود) ، حيث التجار والموسرين ، من أمثال
عائلتنا ، تجار الأخشاب ، الذين يسكنون فى أعلى مطلع حجري يطل على التربيعة ..
وبين
الضنك وخيبة الأمل والخذلان ، فى حي (نقرة حندق) السفلي الذى يفضي إلى التربيعة
مباشرة ..
تتوسطهما أحياء البين بين ، حيث الحرفيين
والباعة والروازقية فى (طلعة قشقوش) و(طلعة بعيزق) ..
تبدأ
مباراة الكرة الشراب الهامة والمصيرية ، والتى تقام بعد عصر كل جمعة بين فريقي ..
القمة
: خوخة اليهود ، بقيادة الكابتن حمدي الجبان ، حمدي ابن الحاج عبدالمنعم الصم ، صاحب
كوبانية الجاز ، سموه جبانا لإنعدام إحساسه ، ربما بسبب مخه التخين وقفاه العريض
واصداغه المنتفخة كالباذنجان الرومي ..
والقاع
: نقرة حندق ، بقيادة الكابتن ربيع زلط ، السماك الشهير ..
ويحكمها
حكم التربيعة الأول ، الكابتن باسط ، بائع الجرائد ، ابن طلعة بعيزق ..
فى
عز سخونة الماتش ، تسمر اللاعبون فى أماكنهم ، وفغر الكابتن باسط فاه ، تاركا
صفارته تتدحرج على صدره مع ريالة شدقيه التى لاتتوقف ..
وتحول
الجمهور المتحلق حول فناء التربيعة ، العيال والشبان والمارة ، واللصوص والشحاتين
والمتسكعين ، منهم من كان يركب على دراجته ، ومنهم من كان جالسا على مقهى ، أو
مطلا من شباك أو شرفة ، أو محشورا بين الأرجل ، أو جائلا يسترزق .. تحولوا جميعا
إلى تماثيل مبحلقة ، فى متحف شمع ..
ماهذا الشحط
الهلف الغريب الذى حجب الشمس ، بدا أطول وأعرض من باب الإصلاحية .. اخترق ملعب
التربيعة غير عابئ بالمباراة ، كمارد خرج لتوه من المصباح ..
ضخما مهولا ،
جاحظ العينين أحمرهما ، منتفخا طريرا من أعلى ، كفنطاس الكوبانية ، هزيلا مسلوعا ،
مسطح المؤخرة ، متعرج الساقين من أسفل ، كذيل طائرة ورقية .. ليواصل سيره فوقنا
وكأننا رؤوس أقزام لم يكد يراها !
أنظر
إلى رأسه الصغير المبعجر ، بعضه أصفر وبعضه أقرع ، ووجهه المطبق من كل ناحية
كصفائح جبنة مختار البقال القديمة الصدئة ، والكرات المنتفخة المتصلبة التى تبرز
من أكتافه ومجانصه و صدره ، الأعرض من الملعب ..
أهمس فى أذن أيمن المدبوح ، صاحبي :
أهمس فى أذن أيمن المدبوح ، صاحبي :
مين
الراجل العبيط المرعب دا ياض ؟! وإيه اللى جابه هنا ؟!
أنا
عارف ، أنا زيي زيك ، وزي المدهولين المتنحين اللى بيتفرجوا عليه دول ..
الله
! إزاي الكابتن حمدي الجبان يسكت لواحد لطخ زي ده ، ويسيبه يوقف اللعب ؟!
يعنى
انت مش شايفه شكله ، دا حمدي مش طايل لحد ركبته أصلا !
طب
ومين الولية الشعنونة اللى سحباه زى المقطورة وراها دي ؟!
هو
أنا عرفت الأولاني لما هعرف التانية ! تلاقيها مراته .. هو عامل زي سبارتاكوس وهى
عاملة زى حجازي المخبر ، الأصفراوي المقفع ، ربنا يجحمه !
سبارتاكوس
مين ياض ، أنت عبيط .. سبارتاكوس اللى شفناه فى السيما فى العيد ده ، راجل مجدع ،
دا محرر العبيد .. إنما الأهبل ده شكله هيطلع ساكسونيا فى الآخر ، وهتشوف ..
وإيش
عرفك ، يا ناصح !
أنا
ليا نظرة كدا فى البني آدمين ، ماتخيبش أبدا ، وهوريك دلوقتى ..
هتعمل
إيه يا مجنون ؟!
طول
بالك انت بس ..
ألتقط
حجرا كبيرا بهدوء ، وأستجمع قوتي لأقذف به على سطح سامبو الكلابجي ، فتهيج كلابه
تقافزا ونباحا فى نفس واحد ، وتطل برؤوسها من فتحات سور السطوح المنخفض المطل على
التربيعة ، مكشرة عن أنيابها كذئاب شرسة ، ليأخذ سبارتاكوس المزعوم ذيله فى أسنانه
، يتعثر فى امرأته وينكفأ فوقها ، ويجري هلعا صوب زقاق العجمي ، حتى ينجحر كفأر
مذعور فى شق بالطابق الأرضي من بيت الخالة بسيسة ..
فتفطس
التربيعة من الضحك ، ويعود الجميع إلى المباراة ، وكأن شيئا لم يكن ..
يطلق
الكابتن باسط صفارته ، يسنتر الكابتن حمدي الجبان ، نقلة لمصطفى خريبة ، بالمسطرة
لطارق طباجة ، يعدى واحد ، التانى .. ليصل إلى صخرة دفاع النقرة ، الكابتن ربيع
زلط ، الذى يشنكله ، كعادته ، و يرزعه على الأرض .. صفارة عالية غاضبة حاسمة ، من
الكابتن باسط .. فاول ، ضربة حرة مباشرة ..
وسط
إعتراض و زعيق و تفتفة و شتايم و تشويح ، كما يحدث مع كل صفارة من باسط .. يضبط
حمدى الجبان الكرة ، بينما يتخشب أمامه شحطان يضعان أيديهما على مقدمتهما ، يدقق
فى المرمى بطرف عينه ، يرجع إلى الخلف ، يتقدم هاجما على الكورة ، برجله اللى زى
المرزبة ، بسن الجزمة ، قنبلة .. بره ، أوت .. تجللي و تلبس فى سور مدرسة الصنايع
المتهالك القابع خلف المرمى الخشبي الأعجف ، فتفلقه .. ليصهلل هدير الجماهير :
يييييه .. ويصرخ طارق طباجة شادا شعر رأسه
الطويل ، كشعر عبدالحليم حافظ : إيه ياعم حمدي ، الجون قدامك زي الشاروقة .. ولا
انت لسه مخضوض من الراجل الشحط ..
يتراجع
الجبان بظهره مطأطئ الرأس معتذرا ، كاشفا نجيلة صدره وبطنه ، الكثيفه السوداء ،
ليجفف عرقه بفانلته !
تستأنف المباراة
وسط صفير باسط ، الذى يهيج الجمهور ويشعل الإحتكاكات بين الفريقين عمال على بطال ،
لتبلغ ذروتها بإطلاقه صفارة النهاية بفوز فريق خوخة اليهود بقيادة الكابتن الجبان
بهدف مشكوك فى صحته .. فتندلع عاركة لرب السما ، تحطمت فيها كراسي قهوة عماشة ،
وتطايرت فى الهواء أزايز الكاكولا من تلاجة مختار البقال ، وانتزعت ضلف دواليب
العرايس من أمام علي الأسترجي لتتحطم فوق الرؤوس ، وسط صراخ الصغار ، وصويت النسوة
وعويلهن من الشبابيك ..
وأنا
فى وسط هذه الموقعة مشغول بسبارتاكوس المزعوم لأعرف ما موقفه كغنضفر ، من النجدة
والتسليك فى مثل تلك المعارك ..
أتسلق
السور الخلفي لجامع سيدي سبح الله ، الذى يشرف على زقاق العجمي ، لألمح قرعة
صاحبنا من وراء كتف مراته المقفعة ، يتفرج مذعورا كجرو مبلل ! ليصدق حدسي فيه
وأضعه فى رأسي أنا وأيمن المدبوح وبقية الشلة ، لنسبر أغوار حكايته ونعرف سره
اتفقنا
، أيمن المدبوح ، وهشام الكيال ، وصلاح أبوهرجة ، وحاتم شبارة ، وأنا .. أن نراقب
سبارتاكوس ونظل نتتبعه حتى نعرف حكايته ، وإذا طلع فيها إن ، نطلع على جتته وجتة اللى
خلفوه البلا ، ونطلعه من تربيعتنا بجرسة وشخاليل ..
نسينا
برنامج اللعب والروقان فى الأجازة ، التى طالما انتظرناها بعد تعب ومرار
الإعدادية ، وغطسنا لشوشتنا فى مهمتنا
البوليسية المثيرة ..
كدنا
نجن ، فقد قضينا النهار كله متخذين مواقعنا بإنتظار ظهور الهدف ، سبارتاكوس ، فلم
يظهر له أى أثر منذ وصوله ليلة أمس وحتى عصر اليوم ، وبعد أن بلغ بنا الضجر مداه ،
أسعفنا صلاح أبوهرجة بمعلومات ثمينة زودته بها خادمتهم عدوية ، بعد أن نفحها شلنا
لتذهب من وراء أمه ، وترسى على الحكاية من الخالة بسيسة ، تلك العجوز اللتاتة التى
لاتسكت بلسانها ، والتى أستأجر سبارتكوس أحد المطارح فى طابق بيتها الأرضي ،
الأشبه بالقبر ، فى نقرة حندق ..
متلهفون
، صحنا فى نفس واحد : حلو أوى يا بوصلاح ، قول لنا إيه العبارة ؟!
الحكاية
إن صاحبنا ده من عزبة اسمها الأعرج ، حد فيكو سمع عنها قبل كده ؟!
طبعا
لأ ، ولا هنسمع عنها بعد كده ..
المهم
.. واحد قريبه دله على شغلانه هنا ، جه يدور على سكن ، لقفته الخالة بسيسة العقر ،
ودبسته فى مطرح فى تربتها المضلمة الكئيبة ، بجنيه فى الشهر المفترية !
لكن
ماقالتش هيشتغل إيه هنا ؟!
بتقولك
هيشتغل حارس ، حارس ليلي على محل الخواجة
خرلمبو
بتاع الكونياك ..
آه
، عشان كدا .. أصل الخواجة خرلمبو اتسرق مرتين الجمعة دي ، بيقولك من يوم ماقطع
الإتاوة عن حجازي المخبر ، اللمامة الدني ، اللى مش عاتق حد ، ومحله بيتسرق كل
شوية !
ما
علينا ، ياكش يولع الخواجة خرلمبو وحجازي والكونياك فى ساعة واحدة ، المهم إن
البغل ده هيشتغل بالليل ، يعني هيطلع الليلة متأخر ..
بتفكر
فى إيه يا ابو دماغ سم ..
كمل
بس ، وأنا هقولكم ..
اكمل
إيه تاني ، مفيش حاجة تانية قالتها عدوية .. آه ، نسيت .. بتقولك اللى مجنن بسيسة
إن صاحبنا طول النهار متلقح على السطوح ، من غير فانلة ، يشرب لبن و بيض نيي وعسل
أسود ، ويشيل فى كوزين أسمنت جايبهم معاه ، بسيسة خايفة يوقع لها البيت .. تصدق
إنه مسافة النهار سحب من مختار البقال بيض وعسل أسود بجنيه بحاله ، دا غير ارطال
اللبن اللى خدها من أم أدهم الفلاحة ..
وقعته
سوده ، هنطرشه كل اللى طفحه بعون الله .. خليكو معايا ، وكل واحد يفتح للى هقوله
كويس ، ويعرف دوره فى الخطة اللى هقولها دى ..
الشلة
فى نفس واحد : ربنا يستر ، حاكم انت لما تحط حد فى دماغك ، نقول عليه يارحمن
يارحيم ..
دلوقتي
سبارتاكوس أفندي كعب الغزال ده ، فى سكته لشغله عند طين البرك الخواجة خرلمبو ،
لازم هيعدي فى الضلمة الكحل على جبانة الكاثوليك و الخرباية اللى جنبها ، ودول
لوحدهم كفاية يقطعوا خلفه ..
خلف
إيه ونيلة إيه يا أخينا أنت ، مش شايف الدكر اللى اسمه فوزية اللى متجوزها ..
المهم ، كمل ، قول مصايبك ..
يادوب
مش هيلحق يبلع ريقه من رعب الجبانة والخرابة ، هيخش على كنيسة الأروام ومنها على
قبة المملوك وسبيل ولي الدين المهجور ، اللى فيهم الشفا والرعب الأزلي ..
أيوا
، وعلينا من دا كله بإيه ، هيتخض مرة ، وبعدين هيتعود على السكة ..
هيتعود
على السكة ! مش لما يبقى يشوفها تاني ..
ليه
، لاهو انت ناوي على إيه ، ماتخلص ياض ، ولا نقوم نمشي ، الله يخرب بيتك ، نشفت
ريقنا ..
طول
بالك انت وهوا بس ، الشحط ده اقتحم تربيعتنا ببجاحة وقلة ذوق ، ولازم ياخد واجبه
ويتروق حسب الأصول ، ولا هنستعبط .. الخطة كالآتي :
حضرتك
يا سي هشام يا كيال ، هتجيب لنا خمس أشولة خيش مهربدين من مخزن السيد والدك ..
يانهارك
أسود ، اشولة خيش ! ليه ، هنقطعه ونعبيه ؟!
ما
تطولو بالكو وتفهمو ، قرفتوني ..
وانت
ياد يا حاتم ، تدور فى كوافير الست والدتك على خمس باروكات بايظة ومنعكشة ، وتتصرف
وتجيبهم .. وأيمن المدبوح عليه يجيب خمس شماريخ حشوم كبيرة ، وورنيش أسود ..
يا
صلاة النبي ، ونجيب سبارتاكوس بالمرة ، ونصور فيلم محرر عبيد نقرة حندق ..
بقولكو
إيه ، اهدوا وخلوني امخمخ ..
مخمخ
يا فالح مخمخ ..
احنا
هنوزع نفسنا ، احنا الخمسة ، واحد على جبانة الكاثوليك وواحد فى الخرباية ، وواحد
فى كنيسة الأروام ، وواحد فى قبة المملوك ، وأنا عند سبيل ولي الدين ..
كل
واحد هيلبس باروكة منكوشة ، ويلغمط وشه بالورنيش الأسود ، ويلبس الشوال الخيش ،
ويمسك له شمروخ ، ويستخبى فى مكانه فى الضلمة ، ولما يوصل سبارتاكوس عنده يهب فى
وشه زى الوابور الفسدان ، لحد مايوصل عندى ، دا إذا كان لسه فيه الروح ووصل عندي ، وأنا هروقه ..
يهبط
الظلام منتهزا غياب القمر ، ليشتد حلكة ، ويخمد الناس ، وتنشط الكلاب ، ويقترب
موعد مرور الهدف ، سبارتاكوس ، فى طريقه إلى محل الخواجة خرالمبو ..
الله يلعنهم هما الجوز ، زي ما دبسونا فى الخطة
المرعبة دي ..
جوز مين دول اللى بتلعنهم يا هشام يا
كيال ..
هيكونوا جوز حمام يعني يا ناصح ، الزفت
سبارتاكوس والخواجة خرلمبو طبعا ..
لأ ، فى دي معاك حقهم ، ليلتهم شكلها
مطينة بطين ..
مش شورتك يازعيم ، اشرب يا فالح ، عليا
النعمة شكلنا إحنا اللى هنعملها على نفسنا فى الليلة الكحل دي ..
اتكتم واهدى وبطل تخوفنا يا كيال ، طول
عمرك فقري ..
أنا فقري يا صلاح يا ابوهرجة ، بالله
عليك ما انت هارر على نفسك ..
خلاص خلاص ، مفيش وقت .. ياللا يا
عفاريت ..
أيوه ، ياللا ياعفاريت .. انت خاسس
عليك حاجة ، لما نشوف آخرة مشينا ورا مغامراتك وخططك ومقالبك دي ، هتودينا لفين ،
شكلنا هنموت مقتولين بسببك ..
فى جبانة الكاثوليك ، حيث الرعب اللى على أصوله
، والظلمات بعضها فوق بعض ، إذا أخرج أحدنا يده ، لم يكد يراها ، ما أن إجتمعنا
علشان نلبس ونستعد تمهيدا لتفرقنا ، كل فى
موقعه .. حتى كادت قلوبنا أن تتوقف من الضحك على شكلنا فى عز الضلمة ، فى أشولة
الخيش ، والباروكة الشعنونة ، وكل واحد مليط وشه بسواد الورنيش ، وماسك فى إيده
شومه صعيدي عجب ، كأشباح فى فيلم رعب لهيتشكوك .. وخصوصا حاتم شبارة ، وايمن
المدبوح ، وهشام الكيال علشان عيال فرافير وبشرتهم شقرا وفشتهم عايمة ، بيموتوا من
الضحك من أقل فسفوسة .. بيعتبروني أنا وصلاح أبو هرجة ، صعايدة ، علشان سمر
وناشفين وقلبنا جامد !
فى إستغراقنا فى الضحك والمسخرة ، ربما لإسكات الخوف الكامن فى قلوبنا ،
يمرق من قلب الجبانة فجأة كلب أسود تلمع عيناه الناريتان فى الظلام فتخلع القلوب ،
ليقفز أيمن المدبوح هلعا فوق رؤوسنا ، ونتبعثر جميعا على الأرض ، نحاول النهوض ،
كل واحد بيحاول يسلك شومته من شومة الآخر ، يبحث عن باروكته ، يخبط فى وجه هذا مرة
، وفى قفا الثاني أخرى ، هذا يتشبث بأرجل من بجواره ، وذاك يتعلق بخيشة من يطوله ..
لم نتمرغ فى التراب من أثر تلك المعجنة
، مثلما تمرغنا من الضحك لرؤية منظر أيمن المدبوح وقد تاهت باروكته ، وبدا شعره
الأصفر على وجهه الملطخ بالورنيش الأسود ، زي مايكون لمبة جاز مهببة فى الضلمة ..
خلاص قلبي وقف من الضحك ، هموت ، بقولكم إيه ،
إحنا نروح أحسن لنا .. اعملوا معروف ..
إحنا هنهرج يا هشام يا كيال ، مفيش
رجوع ، طول عمرنا بنتفق إتفاق رجالة ، وبعدين هيا الأجازة بتصهلل إلا بالطلعات
الحلوة دي ..
صلاح
أبو هرجة من موقعه بالجبانة ، المطل على نقرة حندق .. هش ، هس .. مش سبارتاكوس
اللى طالع من تحت ده ..
أيوه
هوا .. نتفرق فى الحال ، كل فى مكانه ، وقد خنقت الإثارة خوفنا ، لكنها لم تقدر
على بقايا الضحك الذى غرقنا فيه .. فى طريقي إلى موقعى فى سبيل سيدي ولي الدين
المهجور المرعب ، بالكاد ألمح سبارتاكوس يصعد مقتربا فى الظلام ، يلبس أسود فى
أسود ، وقد شمر نصف كم قميصه حتى قارب كتفيه مستعرضا عضلاته المهولة ، يمشى متخلعا
، يعافر فى صعود الأزقة الحجرية الحلزونية ، كبغل أسود ، حديث عهد بجر عربات
البلدية
ما
أن أختبئ فوق عتبة عالية فى طاقة بالحائط المجاور لمدخل السبيل ، تجعلني مسيطرا
على الممر المسلوع المتعرج الذى يخترقه ، والذى لابد لعابر المكان أن يسلكه ، حتى
تبدأ صرخات سبارتكوس فى شق صمت الليل والتوهان فى ظلامه الحالك ، لتتشابك مع نباح
الكلاب الذى يتصاعد بتصاعد إستغاثاته ، التى لم تخرج عن صرخة واحدة :
إلحقيني
يا فوزية ، إلحقيني يا فوزية ..
أبذل
جهدا كبيرا فى السيطرة على الضحك .. يخيبك يا سبارتاكوس الكلب ، طب والله حلال فيك اللى بنعمله ده يا راجل يا
خرع ، يا منظر عالفاضي ..
أظل
فى تأملي ومجاهدتي للضحك وزهوي بالنصر حتى تقترب جلبة وصول هذا البغل الهائج
المذعور إلى حيث أكمن ..
يدلف
إلى السبيل ، مردوم تراب ، بيشحر ويتفتف ويخطرف .. والعيال العفاريت فى إثره ،
يدفعونه بالشوم ويخوفونه بأصوات ورقصات شيطانية ، وكأنهم اشتغلوا عفاريت لفترة
طويلة من قبل ..
أستجمع
كل أثارة من شجاعة لدي ، وأقفز فوق ظهر سبارتكوس ، قابضا على قفاه ، أتطوح كمروضي
الجياد البرية من الكاوبوي ، حتى ينكب على الأرض كالجمل الذبيح ، وكلنا فوقه
نتبارى فى نزغه بالشوم ، وينافس كل منا الآخر فى إصدار أصوات مقلدة بإتقان ، لفحيح
وشخير وحشرجات شيطانية غليظة تجعل سبارتاكوس لايشك لحظة فى أنه بين يدي خمسة
عفاريت ولاد عفاريت ، فيخفت صوت شحيره ، وينقطع نفسه ، وتتوقف إستغاثاته .. لنتبخر
من المكان رعبا من أن يكون سبارتاكوس قابل رب كريم ..
يهرع
حاتم شبارة ليعيد الباروكات لمخزن كوافير والدته ، وهشام الكيال ليعيد أشولة الخيش
والشوم إلى وكالة غلال والده ، والجميع ليزيل الورنيش ويغتسل من المرمغة فى التراب
، لنصطف قلقين على سطح أبى هرجة الذى يشرف على طريق النازل من خوخة اليهود ، نتلمس
أية أخبار عن سبارتاكوس ، الذى تركناه كجثة ثور أرداه مصارعه ..
تتوسط
الخالة بسيسة الطريق لتبادر النازل بالسؤال ، إلا فيه إيه ياضنايا ؟!
ولاحاجة يا أمه ..
ولاحاجة يا أمه ..
يا
أخواتي ، دا انا سامعة بوداني صويت الواد سيد الصفطاوي ، الساكن الجديد عندي ،
عمال يولول ويجعر ، إلحقيني يا فوزية ، إلحقيني يا فوزية .. طب أهى فوزية خطفت
طرحتها وطلعت تجري حافية ، لما نشوف .. يارب جيب العواقب سليمة ..
نتنفس
الصعداء .. الحمد لله ، سبحان من جعل
أبواب السما مفتحة لعجوز لتاتة زي بسيسة ، وبسرعة جاب العواقب سليمة .. وها نحن
نلمح سبارتاكوس نازل يعرج زى جرحى الحرب ، زائغ العينين ، مردوم تراب ، عاوج بقه
وبيرتجف ، ورابط دماغه بمنديل ، وبيتعكز على فوزية الدكر ..
لتسرع
إليهما بسيسة ، فيه إيه يا فوزية ، إيه اللى صابك ياد ياسيد ، كنت بتجعر ليه من
شوية ، سيبت ركبي ..
مفيش
يا خالة ، أنا طلعت أجري على الصوت ، على ملا
وشي ، لقيته مرمي ، بيشحر ويريل ويهلوس ، واللى عليه ، عفاريت يا فوزية ،
عفاريت يا فوزية ..
عفاريت
إيه يخيبك ، دا شحط زيك يخوف مية عفريت .. روحي روحي ، اعملى له كوباية ليمون ، بلا
وكسة ..
لنشرب
نحن طقم عصير قصب ، كبير ومتلج ، من حفظي الصعيدي ، نخب إحتفالنا بترويض مارد زائف
!
أصبحنا
ولا حكاية للتربيعة إلا العفاريت اللى خلت سيد الصفطاوي أبو مجانص ، اللى العيال
ولاد التجار طلعوا عليه اسم سبارتاكوس ، عملها على نفسه إمبارح ، وراقد بيرتعش
ويهلوس لحد دلوقتى ..
فى
طريقي إلى الوكالة ، مارا من تحت شباك بهجة الخياطة ، يتسلل إلى سمعي :
يادى
الجرسة أم جلاجل ، مش مكسوف من مجانصه وعضلاته اللى ماشى مشلحها رايح جاي ، صحيح
اللى يشوف الباب وتزويقه ما يشوف نشفان ريقه ..
لترد
زبونتها : على رأيك يابهجة يا ختي ، قال من بره هالله هالله ، ومن جوا يعلم الله ،
والنبي ما أنا عارفة نحكم على الرجالة إزاي ، نوزنهم بالرطل
، ولا نقيس طولهم وعرضهم بالمتر ، ولا بالفلوس والنزاهة
والعياقة ، ولا بالكلام والمنظرة والفشخرة ..
اسكتي
يا محاسن يا حبيبتي ، مايغركيش المنظر ، أقولك إيه بس ، ياد الكسوف يا اخواتي ،
وقال انا الهبلة العبيطة اللى أول مرة شفته من الشباك ، شهقت وعيني ما شافتش النوم
، من حسرتي على بختى مع جوزي ، اللى عامل زي الشراب القديم ، واتمنيت راجل بغل زي
ده يهنيني ، وحسدت مراته ، أتاري نأبي طلع على شونة ، والحال طلع من بعضه .. هيه ،
ما اسخم من ستي إلا سيدي ..
أسرعت
أتفتف وابرطم ، إخييه عليكم نسوان عايزه الحرق ..
ثلاثة
أيام وسبارتاكوس مستموت فى البيت ، راسه وألف سيف ما هو رايح للخواجة خرلمبو ، ولا
مخطي ناحية السكة دي تاني ، هيرجع عزبة الاعرج
يعني هيرجع .. طبعا مش حايشه من الرجوع إلا الديون التى تلتلت عليه ،
لمختار البقال ، وللخالة بسيسة اللى قاعدة له زنهار على الباب ، وأم أدهم بياعة
اللبن ، وللكل كليلة .. لم يعد فى نقرة حندق
صوت ، أعلى من صوت نقار الديوك سبارتاكوس والمجنونة مراته ، صباح ومسا ..
لحد
ما صحيت التربيعة كلها ، من تعسيلة عصاري ، على رقع بالصوت الحياني ، بدر الناس زي
الملح ، اللى بهدوم واللى من غير هدوم ،
عند بيت بسيسة .. فيه إيه يا ولاد ؟!
عند بيت بسيسة .. فيه إيه يا ولاد ؟!
على
ماوصلت أنا وصلاح ابو هرجة ، لقينا الست كوكب الدلالة اللى ساكنة على سطوح بسيسة ،
والبلقيني جوزها وعيالها ، مجرجرين سبارتاكوس ببواقي فانلته على السلالم ، زي
الدبيحة الوقيع ، وهات يا ضرب بالأيدي والأقدام ، بالقباقيب والبلغ والبونيات
والأقلام .. يزفهم جعير الدلالة على طلب البوليس ، وولولة فوزية : يفضحك زي ما انت
فاضحني ، ياجلاب المصايب يا عرة الرجالة ..
لم
ينقذه منهم إلا الكابتن حمدي الجبان الذى بدت عليه الدهشة ، معقول ده اللى وقف لنا
الماتش .. لينسحب متأثرا يضرب كفا بكف
بوصول حجازي المخبر ، النتن الأصفراوي زي البالطو اللى لابسه صيف شتا ، ليزيد
الطين بلة ، بخبثه وعفانته ، فيرفس سبارتاكوس رجل فى بطنه بقرف :
الواد
دا منين ، وجه هنا إمته ، وإزاي ماشفتوش ولا مرش عليا .. قوم فز يا ابن الصرمة
قدامي على الكراكون ..
رفسة
غل تانية فى جنبه ، من النوع الصهيوني المتأصل فى حجازي الجايف ، مصحوبة بشرر ككير
الحداد ، من عينيه الجاحظتين ، وفمه المفشوخ ، كفرس النهر : قولتلك قوم انهض يا
بغل يا ابن البغل .. ديكك وديك اللى جابوك يا بن ال ..
يخرس الكلب حجازي فجأة ويزداد عرق وجهه
الممقوت ، ويعم الصمت المكان ، لقدوم الدريني العربجي بحنطوره المخصص لتنقلات
الحاج إسماعيل الحلواني ، صاحب الوكالة وشادر الخشب ، الذى ينزل من الحنطور بتؤده
ووقار ، يتبعه كاتبه المقدس غبريال ، الباشكاتب الأحدب ، الذى لايفارقه ..
سلام عليكم ..
ليرد من بقي بالمكان ، يتقدمهم حجازي ،
سلام سيدي ، ورحمة الله وبركاته ..
إيه العبارة ، ملمومين كدا ليه ، وإيه
اللى موقفك هنا ياد يا حجازي ..
تسبقه كوكب الدلاله وزوجها البلقيني فى
نفس واحد .. يرضيك يا حاج ، الواد ده يطلع يلم البيض من تحت الفراخ ، عشرين بيضة
المفتري ، يفقشهم ويشربهم زي الحلوف .. على كدا له تلات تيام ، واحنا فاكرين الحوان صابها صايب ..
ينحشر حجازي : إتفضل انت يا حاج ، وأنا
هعرف شغلي معاه فى الكراكون ..
ليلقمه الحاج جنيها وسيجارتين :
سيبهولي إنت ياحجازي وشوف مصلحتك .. ياللا يا اخواننا ، كل واحد يروح لحاله ، وانت
يابلقيني حقك عندي .. يهمس للدريني ، والمقدس غبريال .. خدوا الواد ده على الوكالة
، هاتوله هدوم وأكل ، على ما اشوف حكايته إيه ..
ترقع فوزيه صوت ، فيشخط فيها الدريني ،
اختشي يابت وراعى مقام الحاج يا بنت الكلب ..
اختشي يابت وراعى مقام الحاج يا بنت الكلب ..
ليتدخل الحاج برفق .. خلاص ياست ، روحي ، واحنا هنحل كل حاجة
، بسيطة إن شاء الله .. يهمس : وانت ياد
يا دريني ، عيب ، بالراحة على الغلابة ، كلنا على الله يا ابني ..
يصعد الدريني بالحاج إسماعيل إلى بيته
بالخوخة ، ننتظره بلهفة ، ونتحايل لننحشر معهم
بالحنطور ، لنعرف مصير سبارتكوس ،
ونفهم لماذا أقدم على هذا الفعل المخزي ..
يركب المقدس غبريال الحنطور ، بشنطته الحدباء
المنبعجة التى لا تفارقه وكأنها توأمه ، متأففا ، وفى إثره صلاح أبو هرجة وأنا ،
وعندما يهم سبارتاكوس بالركوب ، يحمرأ الدريني .. أبدا ما يركبش ، الفرسة لسه
مربعنة ومتقدرش تشد رزية زي ده ..
يتعصب
المقدس غبريال ، واد يازفت يادريني ، بقولك إيه ، أنا روحي فى مناخيري ومش ناقصك ،
أنت ما تصدق الحاج يمشي هتدلع ، مش كفاية ، هات له هدوم وأكل ياغبريال ، قال هدوم
وأكل قال ، اجيب للهضبة دا منين ، دا مصنع نسيج الحرايري
مايلاحقش علي مقاسه ..
مايلاحقش علي مقاسه ..
انت
هتغني وترد على نفسك يامقدس ، يعنى مستكتر تجيب له هدوم ، ومش مستكتر بلوة زى ده
على الفرسة النفسا ، عجايب ..
وبعدهالك
يادريني ، روح يابني قول للحاج ، على وقفتنا وعطلتنا فى الشارع دي ، علشان أنزحة
الدريني ابن بارم ديله ..
ليتدخل
صلاح أبو هرجة بخبث : خلاص يادريني ، نخليه يساعد مع الفرسة .. واهو كرباج هنا
وكرباج هنا ويمشي الحال ..
معلش
والنبي يا .. قولت لى اسمك إيه ؟! خدامك سيد الصفطاوي .. عاشت الأسامي يا أخ سيد
يا صفطاوي .. الله يخليك بإيدك البركة دي مع الحنطور من ورا ، لحد مانعدي الدحديرة
دي بس ، علشات نروح الوكالة ، والحاج إسماعيل الحلواني يروقك ..
مذهولا
أتمتم ، الله يلعنك يا أبو هرجة ، أنت كافر ياض ، للدرجة دي معندكش قلب ..
اتأثرت
جدا ، وشعرت بندم شديد على تسرعي وغلبة شهوة الإنتقام والمغامرة على تصرفاتي ،
وحشدي لأصحابي لبهدلة الغلابة ، وأنا شايف الغلبان الساذج المضطر ، سبارتاكوس ،
وبكل بساطة ، وبما بقي من ملابسه ومن كرامة الإنسان التى فطره الله عليها ، يدفع
الحنطور من الخلف ، وأنا وابو هرجة المفتري والمقدس غبريال ، والدريني العربجي
النمرود ، مطرطرين نتمايل على الحنطور ، وقليل الحيلة الغلبان ده يزقنا ..
حقك
عليا يا سيد يا صفطاوي ، يااااه ، أد كدا قوتك وضخامتك وعضلاتك ، ما عملوش حاجة لقلة حيلتك وميلة بختك .. لك
عليا أكفر عن غلطي فى حقك ، و اعمل اللى أقدر عليه لمساعدتك انك تعيش بكرامة .. بس إزاي ياربي أرجع لأصحابي
عقلهم وأقنعهم بموقفي الجديد ده .. قلة الذوق والإفترا اللى بيتصرف بيها صلاح أبو
هرجة ، علمتني إن اللى بيمشي فى طريق بمزاجك ، ما بيرجعش منه غير بمزاجه هو ..
توبة أحشد حد لسكة مش متأكد من نهايتها ..
أنتبه
على صوت الدريني الأجش ، للفرسة هانم المدلعة : هس .. آدي الوكالة ، تؤمرني بحاجة
يامقدس ، علشان اتأخرت وعايز أروح ، وكفاية على الفرسة كدا ..
استنى
يازفت وبلاش مرقعة ، انزل يابني انت وهوا ، شونوا الشحط دا جوه ، على ما اروح أدبر
له هدوم وأكل زي ما الحاج أمر .. يقولها المقدس غبريال وهو يمد رأسه من ظهره
المحدودب ، وينظر إلى سبارتاكوس كنملة تنظر إلى وابور زلط .. يغمغم : وده مقاسه
كام ده بس ياربي ، ليبادره السهن ، صلاح أبو هرجة : بقولك يامقدس ، أنت تتكل على
الله وتروح تجيب له زكيبة من عند أبو هشام الكيال ، وبالمرة خليه يعبيها لك تبن ،
وبكده تضمن له الهدوم والعشاء ..
يتعصب
عليه المقدس غبريال ، اللى السكر معصبه خلقة : تعرف إنك واد مهزأ وقليل الأدب ،
ولولا إني عامل لأبوك خاطر لكنت قطعت الصرمة على دماغك ، ناقصك أنا علشان تتمسخر
عليا ، اتفو ..
يطرق
صلاح أبو هرجة خجلا ، لأكمل عليه : تستاهل ، علشان انت افتريت بصراحة ، مش كفاية
خليت الغلبان دا يزق الحنطور ، وانت مجعوص فيه ،
كمان بتتريق على راجل أد جدك ..
كمان بتتريق على راجل أد جدك ..
عجايب
، دلوقتى أنا الشيطان الرجيم ، وانت الملاك الرحيم .. مش انت اللى جرجرتنا وراك لبهدلة الغلبان
اللى صعبان عليك دلوقتى ، وكان هيموت بالسكته من
خططك العبقرية ..
خططك العبقرية ..
معاك
حق يا صلاح ، أنا بعترف بغلطي ، كنت فاهم غلط وندمت ، وقلبي حاسس إن سبارتاكوس
إنسان طيب وبريئ .. مش كدا وبس ، دا مظلوم كمان ، وشكله الضخم عالفاضي ، من ضمن أسباب الظلم ده ، وأكيد فيه
ظروف وصلته للهوان دا كله ..
يتدخل
سبارتاكوس ، من مكانه الذي يتكور فيه ، بين بلوكات الخشب المتراصة ، منذ أن دخل
الوكالة .. عدم المؤاخذة ، أنتو بتتكلمو على مين ؟!
يشخط
فيه صلاح أبو هرجة : وانت إيش حشرك ، اتلقح مكانك لحد مايجيلك العليق ..
عليق
! ليه كدا يابن الناس ، دا أنا بني آدم زيك ، هو أنا علشان زقيت لكو الحنطور ،
ثواب يعني ، قلت ياد معلش أهو بدل ما تتعب الفرسة للعربجي الغلبان .. تقوم تبصي لي
البصة دي .. أنا مش حرامي والله ، أنا بريئ ، وكمان أنا مش جي أشحت ، أنا جيت هنا
كرامة للحاج إسماعيل الراجل الكبارة ، ربنا يجبر بخاطره .. ومع ذلك ياسيدي كتر
خيرك .. يجهش بالبكاء ، ربنا يسامحك ،
سلام عليكم ..
مزق
نياط قلبي حينما قال إنه زق الحنطور رفقا بفرسة العربجي الغلبان .. ياااااه ، فيه
طيبة قلب وحسن نية ، وشفقة ورحمة كدا .. دا أنا لو عندي ربع المجانص اللى عندك يا
سبارتاكوس ، ماكنتش أرحم حد أبدا ، واللى يكلمنى نص كلمة ، كنت أشلفط له وشه ..
ألحق
به ، معتذرا .. معلش ياسبارتاكوس ، حقك عليا ، صلاح مايقصدش ، هوا بس هزاره تقيل حبتين .. وبعدين يصح انك تكبر للحاج وتقعد
هنا زي ما قالك .. ولا تمشي علشان البلقيني والدلالة مراته يستفردوا بيك ويسلموك
لحجازي المخبر ، دا جزار وفاجر ولو طالك مش هيرحمك .. اسمع كلامي ، هنا أحسن لك من
الكراكون ، وإذا كان على الست مراتك متقلقش ، أكيد الحاج بعت لها حد يشوف طلباتها
ويطمنها إن انت فى حمايته .. تعال يا صلاح
راضيه ، دا طلع راجل طيب ..
حقك
عليا ياسبارتاكوس .. كنت بهزر معاك ، احنا من النهاردة أصحاب ..
يتلفت
حوله مندهشا .. فلا يجد إلا ثلاثتنا ،
فيتساءل بسذاجة : إلا مين سبارتاكوس ده ؟!
نتعلثم
، أنا وابو هرجة ، ونكتم الضحك .. لا لا ، دا إسم كدا بنادي بيه أى حد مجدع بيعجبنا ويصاحبنا ..
يعني
مش حاجة قبيحة ..
قبيحة
! دا كلام برضه ، سبارتاكوس دا بطل وعنده عضلات و مجانص زيك .. دا محرر العبيد ..
لما ييجي فى السيما هنخليك تشوفه ..
هيا
القيامة هتقوم ولا إيه ؟! يعنى شايفين الناس زفوني وجرسوني وبهدلوني ، وبيقولوا
عليا حرامي ، وتخلصوني من إيديهم وتساعدوني .. وكمان تتغروا فى شكلي وتسموني على
إسم راجل بطل وشجاع ، وأنا منظر على الفاضي وجبان وبختي مايل وبخاف من خيالي ..
توكنوش ملايكة ربنا باعتكم للغلابة ..
يهمس
أبو هرجة ، إلحق ياض ، دا بيقول علينا ملايكة ، يا نهار أسود ، أمال لو يعرف اللى
عملناه فيه ..
اسكت
يا صلاح ، الراجل الغلبان ده كل كلمة بيقولها ضميري بيعذبني أكتر .. ياللا ربنا
يسامحنا ..
إلا على فكرة
تحب نقولك ياسيد ، ولا يا سبارتاكوس ..
لا
لا ، سبارتاكوس أحسن ، دا انا فرحان بيه أوي ، دا أنا أول مرة أفرح بحاجة .. حتى
يوم جوازي كنت متنكد ومغموم ، كأني رايح لحبل المشنقة ، ربنا يخدها فوزية مراتي ،
كان يوم أسود يوم مادخلت سجنها ..
إنما
إيه حكايتك ، وإيه اللى جابك التربيعة ، وصحيح عملت العملة الوحشة دي ..
ما
هو أنا ..
المقدس
غبريال مقتحما متعجلا ، وفى إثره الدريني بالمأكل والملبس : انت إيه ، انت قاعد
تحكي واحنا دايخين على هدمة ليك .. قوم فز ، قيس دول ، وياللا تعالى علشان تاكل ،
الحاج زمانه جي ..
بسيوني
، إنت ياد يا بسيوني .. أؤمر يا حاج .. مين اللى جوه .. المقدس غبريال والولاد ،
والضلفة اللى معرفش جابوه معاهم منين ده .. مش شغلك ، اختشي ، روح اعمل شاى ووضب
لى الشيشة ، اخفى ..
يتقدم
المقدس غبريال لاهثا : كله تمام يا حاج ، الواد مستور وشبعان ، من فضلة خيرك ،
تؤمر بحاجة تانى .. تسلم يا عمى غبريال ، معلش تعبناك معانا ، اتوكل انت روح ..
يدخل
بسيوني الغفير ، حاملا صينية الشاى بيد ، والشيشة بالأخرى ..
حاجة تانية يا حاج ..
حاجة تانية يا حاج ..
هات
لى الواد اللى بره ده ..
على
إستحياء يدخل سبارتاكوس ، ونحن فى ذيله ، بعد أن لحق بنا بقية الشلة ..
انتو
إيه اللى حاشركم هنا ياد انت وهوا ..
نتلعثم
، ونصدر أصواتا كخبط الحلل : أبدا يا حاج ، قلنا تعوز مننا حاجة ..
يتشاغل
عنا ، بسحب أنفاس عميقة من الشيشة :
خد
تعال هنا يا ابني ، اسم الكريم إيه ..
خدامك
سيد صفطاوي ..
منين
يا سيد ..
من
عزبة الأعرج ، من أول الطريق ، غادي ..
وإيه
حكايتك وإيه اللى حصل النهارده ..
ماهو
.. ماهو ..
ماتنطق
ياد ، متخافش .. يفهم الحاج أن سبارتاكوس لايرغب فى وجود أحد ، فيشخط فينا فجأة :
إيه
اللى موقفك انت وهو ، هيا فرجة ، ياللا دوغري عالبيت ..
لم
نكد نتلكأ ، غيظا من حرماننا من معرفة تفاصيل حكاية سبارتاكوس .. حتى ينتفض الحاج
ملوحا بليي الشيشة ، أنا قلت إيه ..
فنختفى
من أمامه فورا ..
توهان
بسيوني فى غرفة الحراسة ، بين كركرة الجوزة ، وإذاعة أم كلثوم ، أغرتنا أن نناقش
فكرة التسلل فوق الشجرة العجوز القابعة خلف مكتب الحاج ، لنسمع الحكاية ..
لتتشابك
أقوى كفين فينا ، لصلاح أبوهرجة ، فيصعد الأخف فالأثقل .. حاتم شبارة ، فهشام
الكيال ، فأيمن المدبوح .. فأنا ، ويتسلق أبوهرجة كقرد ، فيكمل صحبة القرود التى
سبقته على الشجرة ، يكادون يخترقون بآذانهم الشباك الخلفى لمكتب الحاج ..
وكتاب الله ياحاج أنا بريئ ، الله يخرب بيت
المجانص والعضلات ، اللى جيبالى المصايب ، ويخرب بيت أبو اللى كان السبب فيها ..
وإيه
اللى دخل المجانص فى اللى احنا فيه ..
أمال
ياحاج ، دى هيا سبب كل البلاوي .. معلش طول بالك عليا الله لايسيئك ، حاكم أنا
نفسي راجل بتاع ربنا زيك يسمعني قبل ما أطق وأموت ..
قول
يا ابنى على مهلك .. ولا استنى :
بسيوني
، انت ياد يابسيوني ..
ليفرطنا
زعيق الحاج المفاجئ من فوق الشجرة ، نتدحرج كبرتقال طايب .. نتكوم فوق بعضنا ،
نحبس الضحك حتى نكاد نفطس ، لنكرر مشوار الصعود بسرعة قبل أن يفوتنا السر ..
خدامك
ياحاج ..
انت
بتغطس فين يا ابني ..
هو
أنا بتعتع من مكاني يا حاج ، كنت على الباب بره ، وجيت على طول ..
طب
روح اعمل لنا شاي ، وغير لى الحجر ده ..
هيه
، كمل ياسيد ..
اتولدت
وحداني ، بوزي فى بوز أمي ، علشان أبويا مات وأمى حبلة فيا ، فطلعت ماليش خرباش ، وبخاف
من خيالي ، وأبعد عن بقية العيال ليضربوني .. لحد ما الواد الملعون بيومي أبو
جاموس ما جه فى يوم وقال لى : بالذمة فيه شحط زيك يخاف ، دا أنت لو تعمل لك مجانص
وعضلات تنيم البلد دى من المغرب ..
وعليها
، يوماتي أقوم من النجمة أفقش لى عشرة عشرين بيضة على سطل لبن وأفضل بلبوص طول
النهار أشيل فى صفايح الخرسانة اللى معبيها ابن أبو جاموس ، واشرب عسل اسود ، لحد
ما لقيت نفسي جاموسة زيه ،
وبقيت فرجة للى يسوى واللى مايسواش ..
وبقيت فرجة للى يسوى واللى مايسواش ..
الشاي
والمعسل ياحاج ، تسلم يا بسيوني ، روح انت وخليك صاحي ..
أيوا
يا سيد ، وبعدين ..
بقيت
من بره ياما هنا ياما هناك ، العيال تجر شكلي ، والنسوان تغمز لي .. ومن جوه جبان
وأهبل وخايب وقلبي زي الهيش .. لحد ما العيال فقسوني وعرفوا أننى لسه خيخة والمنظر
لاقدم لى ولا أخر .. والنسوان من الغيظ شنعوا عليا إني ، عدم المؤاخذة ، خيشة ..
قامت أمي راسها وألف سيف تجوزني من بنت أختها الدكر العانس اللى أنى مرزي بيها دي
، وانى أشوف شغلانة بعيد عن الكفر الفقري ده ، وأبعد عن المشاكل .. طب تعالى يا
أما شوفى المشاكل اللى بحق وحقيق ..
انت
هتولول ياد ، دا كله إيه دخله فى اللى بيتهمك بيه البلقيني وكوكب مراته .. صحيح
انك بتسرق البيض من تحت حوانهم لك تلات تيام ..
يقفز
الحاج من فوق كرسيه ليمسك بكلتا يديه زمارة رقبة سبارتاكوس كأنه يقبض على شجرة
كافور ..
تعرف
لو طلع ان دا حصل ، هحش رقبتك هنا ، وبسيوني يتاويك فى خرابة جبانة الكاثوليك ،
عارفها ؟!
وحد
الله يا حاج ، إلا عارفها ، دا اللى شوفته فى حياتي المتعوسة كوم ، والبلا اللى
طلع على جتتي فيها كوم ..
نقبض
على الضحك المحبوس بالعافية كمن يقبض على جمر ، ونتبادل الإشارات بإصبع الإبهام
تعبيرا عن الزهو من تأثير ليلة العفاريت على سبارتاكوس ، ونتبادل نظرات الدهشة من
حكايته ..
هات
لى مصحف أحلف عليه ياحاج على عيني وعافيتي ، ان شا الله يفرمنى اكسبريس ، ماحصل ..
الله
، يعنى الناس بيتبلوا عليك ؟!
أيوا
..
أمال
إيه اللى حصل .. ما انى خايف ومكسوف ..
ومكسوف ليه ، وخايف من إيه ؟!
مكسوف
أقول اللى حصل ، وخايف تكدبني ..
ما
تسترجل ياد وتنطق ، عطلتني ..
والله العظيم ، والله العظيم ، اتعمى
فى نواضرى لو كنت بكدب .. إن المرة البطالة ، مرات البلقيني ، الغفلان ده ، من يوم
ماسكنت عند الخالة بسيسة ، وبطلع على السطح من غير فانلة ، أشرب فى لبن ، وأفقش فى
بيض ، وأشيل حديد .. وهى عينيها منى ، تروح يمين شمال ، وانى مش معبرها ..
لحد ما زودتها ، قولتلها اختشي على دمك
، واتلمي ، انتى ناسيه ان عندك عيال وجوزك بعافيته ، أنى مش بتاع الكلام ده ، لحد
ما يأست ، قامت منتقمة منى بالتهمة الظلم دي ، واخترعت حكاية إنى بسرق بيض حوانها
علشان أشربه ، وربى يعلم إنى برييء و انه ما حصل ، حد الله بيني وبين الغلط ..
يعم
الصمت المكان .. يضع الحاج ليي الشيشة على المكتب ، لينكفئ برأسه
مغمغما .. لاحول ولا قوة إلا بالله .. فيه كده برضه يا خلق هو ..
لتلقى
بنا الشجرة الوقور من فوقها ، بعد أن اهتزت من هول ماسمعت ، فنتساقط على الأرض وقد
أصابنا الخرس ، حتى نتفرق إلى بيوتنا ذاهلين متأثرين ..
لم
يغمض لي جفن إستعجالا للنهار ، لأعرف ماذا سيفعل الحاج بالبلقيني وكوكب مراته
المجرمة ، وماذا سيفعل لسبارتاكوس فى مأساته المحزنة ..
أغفو
وأنتبه على ذهولي : لشد ما تحيرني يا سبارتاكوس ، كيف تصبر ولديك من بطش القوة ما
يكفيك مؤونة الظلم والإهانة ، كيف تقمع قوتك الجسدية عن أن تتبع هواك أو شهواتك أو
غضبك ، أو حتى تنتقم لنفسك وتنتصر لكرامتك ، لتواجه الأذى دون بطشها القادر ، بهذا
القلب البريئ الطاهر الصابر .. ألا ترى الناس يلتمسون القوة لتحميهم من الظلم ، بل
ليمارسوه هم بها ، ولتشبع لديهم لذة البطش ..
يسبقني
النهار متلهفا هو الآخر على إرواء غليله فى الظالمين ، وإراحة ضميره بإنصاف
المظلومين .. لنجوب التربيعة أنا والنهار وأصحابي ، نشنف آذاننا بكلام الناس عن
رقع الصوت الذى انطلق مع الفجر من ناحية بيت البلقيني ، و الذى انكتم مع النهار ،
برؤيتهم لكوكب مراته ، الولية اللئيمة المجرمة الملعب ، على محفة الإسعاف بتشر دم
من كل حتة فى جتتها ، بعد أن كسر عليها البلقيني خمسة قباقيب ، بمجرد مغادرة الحاج
إسماعيل الحلواني لداره ..
و
ننطلق إلى الوكالة لنكحل أعيننا برؤية سبارتاكوس فى عمله الجديد ، فى أكبر وكالة
وشادر خشب ، عند الحاج إسماعيل الحلواني ، الذى يسعد جاره ، ولا يشقى جليسه حيث
الأمان والإستقرار ، والكرم والنغنغة ..
لم
يعد لنا شاغل إلا سبارتاكوس ، ولم يعد لسبارتاكوس أصدقاء وأحباب مثلنا ، بسرعة
تآلف معنا وأنسجم ، وأضحى سادس الشلة ، نلعب معه ونتسلق قامته ، يتدلى حاتم وهشام
من ذراعيه ، وأيمن من رقبته ، وكأنه ديناصورا فى مثل سننا أعادته آلة الزمن
ليصاحبنا ويلعب معنا ..
غطسنا
فى عالمنا الخيالي الجديد ، فلم يعد أحد يرانا إلا مع سبارتاكوس ، نقضى النهار فى
الوكالة ، يحضر كل منا له ما تيسر من طعام وفاكهة وحلوى ، نساعده فى حمل الأخشاب
تارة ، ونعابثه ونعذبه بمقالبنا التى لاتنتهي تارة أخرى ..
ونكمل
اليوم لنتباهى برفقته التى تظلنا من الشمس ، وتردع عنا العيال البلطجية ، وتلفت
إلينا أنظار البنات ..
نلعب
الكرة فيقف ليحرس ملابسنا ، ويحمل لنا الماء والسندوتشات ، ويحضر الكرة إذا بعدت
عن الملعب وهو فرح كالأطفال ..
يتبعنا
إلى شارع الخديوي ، فتغرينا حمايته بمغازلة البنات ، ليتحمل الردح والبهدلة عن طيب
خاطر ..
نجري ونمرح فى الحقول الممتدة خلف الوكالة ،
وهو رابض بجوار أمتعتنا كأبي الهول ، يرقب شقاوتنا ومشاغباتنا ، ويساعدنا فى
إلتقاط ماتيسر من ثمار التوت والجوافة
والجميز ، وقلع الخس والجزر ، حتى إذا حضر أصحاب الزرع ، لم يجدوا سواه ليطاردوه ،
بعد أن ننسلت من بين قدميه ، لتنقطع أنفاسه من الجري هربا من الفؤوس والشوم والقذف
بجعاليص الطين ..
نذهب
بعد الجمعة لنصطاد ، فيتفرغ لضبط السنانير وتزويدها بالطعم ، وجمع الحطب وإضرام النار إستعدادا لشي ما نصطاد
، حتى إذا إصطاد أبو هرجة سمكة شر ، ولم يجد حوله ما يضعها فيه ، طوح بها إلى
سبارتاكوس ، الذى يحتار ، أين يخبئها ، فلا يجد إلا فمه الضخم ، لتنزلق إلى نفق
حلقه ، فيرتمي على الأرض مختنقا ، وكأنه يحتضر ، فنندفع إليه ، لنقف على ظهره وندبدب
بأرجلنا حتى تخرج السمكة ، تتلوى فى التراب ، ونتلوى نحن من الضحك على سبارتاكوس
وقد احمر وجهه ، وجحظت عيناه .. ومع ذلك يشاركنا الضحك من قلبه .. ويوم أن اخترع
الواد أيمن المدبوح ، القزعة الغتت ، فكرة إننا نقنع الكابتن حمدي الجبان انه يوقف
سبارتاكوس حارس مرمى ، فيرحب بالفكرة قائلا : صحيح ، مارد زي ده تعدى منه كورة
إزاي ..
نتسلل
الواحد وراء الآخر ، كالعادة فطسانين من الضحك ، والكابتن حمدي الجبان بيهزأ فى سبارتاكوس
:
بالله
عليك مش مكسوف من طولك لما يدخل فيك خمس تجوان فى شوط واحد .. طب بس لما اطول اللى
شاروا عليا بالشورة دي ..
ليعود
إلينا سبارتاكوس بودانه مطرطرة ، ووشه مزنهر من تفافة الجمهور والشتبمة اللى نزلت
فوق دماغه ..
لم
أر فى حياتي فرحة كالتى رأيتها فى عينيه ، ساعة بدأنا نعلمه القراءة والكتابة ،
ليقدم له الحاج فى مدرسة الإتحاد الإشتراكي ..
ولم
أرى فى حياتي سعادة كالتى رأيتها يوم اصطحبناه إلى سينما نادي البلدية الصيفية ،
لنشاهد فيلم العظماء السبعة ، وأعطيناه شوالا ورغيفا ..
اصحى
ياسبارتاكوس وفتح مخك المرة دي ، الشوال علشان تلم فيه المسدسات اللى تقع من أى حد
يموت فى الفيلم والرغيف علشان تغمس مع أى حد ياكل ، فاهم ؟! ليرد قائلا :
بس
.. طب والأحصنة ، مين اللى هيسحبها ..
ليرتمي
الجميع على الأرض وهم أقرب إلى الإغماء من شدة الضحك .. وسط تنهدات مصحوبة ب ..
حرام عليكم ، قلبنا هيقف من الضحك وهنموت يا جدعان ..
يزداد
ضحكنا ويرتفع صياحنا وسبارتاكوس واقف بإنتظارنا ، وقد ضم يديه إلى صدره المنتفخ ،
بعد أن أصر الجمهور على طرده لتشويشه على الشاشة ببنيانه الضخم ، وشواله ورغيفه ،
لينجعص قائلا :
عليا
النعمة أنا أنفع أشتغل فى السيما .. طب دا أنا افحل منهم كلهم ..
كله
كوم ويوم سهرنا حتى داهمنا الفجر فاصطحبناه ليصلى معنا ، فبدا وسط المصلين المسنين
كملك الشطرنج وسط عساكره ، وقبل أن يطلق الإمام نصائحه المعتادة : القدم فى القدم
، حتى يسارع سبارتاكوس المتحمس بدك كعبه اللى عامل زي الدقماق ، ليهرس به الإصبع
الصغير فى قدم الرجل الهزيل المسن الملاصق له ، فيشهق العجوز شهقة تربك الإمام
والمصلين الذين احتاسوا وأخروا الصلاة ليخففوا عنه .. كلما استعدنا صورة الإمام
وهو يزغر لسبارتاكوس بغيظ ، وقد شهر سبابته فى وجهه : امشي يا أخينا انت ، صلي هناك جنب الحيط
.. قاومنا الضحك بصعوبة مخافة أن تفسد
صلاتنا ..
أنار
سبارتاكوس أيامنا ، وأسعد قلوبنا ، وطهرنا من الكبر والحقد وغرور القوة ، بعد أن
أفاض علينا من طيبة قلبه و براءته
الطفولية ..
وأنار الحاج إسماعيل الحلواني أيام
سبارتاكوس ، وأسعد قلبه ، بأبوته الرحيمة وكرمه السابغ ، لتظهر على سبارتاكوس آثار
النعمة فى سكنه الجديد ، فى مطرح مشمس فسيح ، على سطوح بيت المقدس غبريال ،
وملابسه الجديدة النظيفة ، و زوجته فوزية التى لم تعد دكرا ، بعد أن غيرتها الخدمة
فى بيت الحاج إسماعيل واتنجرت على يد زوجته الحاجة وبناته ، واتعلمت الطبيخ واللبس
..
ليطلع علينا نهار قابض غامض ، يصطحب
بيده أمجد الريس ، هذا الولد الخنفس ، الأمريكاني الأبرص ذو الشعر الأصفر الملخفن
كجزة الخروف ، قبل أن يرسله أبوه ، الحاج عطية الريس ، المقاول ، ليدرس الإخراج
السينيمائي بأمريكا .. كنا نزفه ونحن صغار هاتفين : ياخروف يا ابيض ، يا ابو تلات
ابيض ..
عاد حضرته ليقف بعربيته الدودج الحمراء
المكشوفة ، أمام الوكالة ليسلم على جوز عمته وولى نعمته ونعمة ابوه ، الحاج إسماعيل
الحلواني ، ليصطدم عند ولوجه من باب الشادر الضخم بسبارتاكوس الأضخم منه ، فيقف
أمامه متنحا ، مسبهلا ، وقوف السياح أما تمثال رمسيس الثاني ، يدور حوله ، يتفحص
أبعاده ..
يظل يتامل سبارتاكوس ويهز رأسه والبايب
بين شفتيه ، ليتراجع بظهره نحو مكتب الحاج ، فتوقعه رصة أخشاب على ظهره ، يخرج
الحاج فزعا ليجده :
مين ، أمجد ، مش معقول ، حمد لله على
سلامتك يا ابني ، جيت امته ، وإيه اللى وقعك كده ..
مش مهم يا حاج ، مش مهم .. الحقنى
بالراجل ده ..
راجل مين يا أمجد اللى عايزني ألحقك بيه ، اخص
عليك ، هى أمريكا عملت فيك حاجة كدا ولا كدا ..
يوه وبعدين يا حاج إسماعيل مش هتبطل
هزارك دا ، بقولك عايز الراجل دا معايا فى شغل ، شغل سينما ..
نسهر
جميعا فوق سطح بيتنا فى العشاء الأخير مع سبارتاكوس ، الذى أعد عدته مصطحبا فوزية
بعد التعديل والتنجير ، ليلحق بالمخرج أمجد الريس .. يغادرنا بحال غير الذى قدم
علينا به ، نتمرغ فوقه ضاحكين وننزل فيه ضرب ، ويجثم فوقنا ويجز على أسنانه ،
وكانه يخنقنا ، ويضحك من قلبه مرددا : بعد كل ده تطلعو انتو العفاريت اللى خوفتوني
يا ولاد الإيه ، طب والله لو أمجد بيه عرف لياخدكو انتو السيما بدالى ..
نقف
صفا لتوديعه .. نفسك تعمل إيه فى السيما يا سبارتاكوس .. يصمت قليلا ، ويسرح كحالم
.. وهو لايدري أنه ذاهب فى شغلانة كومبارس .. ليتركنا مستلقين على أقفيتنا من
الضحك .. نفسي أمثل دور .. سبارتاكوس .