يقترب حمادة من البيت ، دون هزات ذيل عوكل ، فيوقن أنه مات ،
يتفقده فلا يجده ، يصعد السلالم مسرعا متلهفا ،
ايه ياماما ، مناولا اياها ، أمانة زوجة عمه ، ايه اللي جرى لعوكل ؟!
طب بس ، أرتاح وغير هدومك ،
أنا مرتاح ، فين عوكل ،
والنبي يابني ما قصرنا ، سونة جاب له راضي التمرجي ، وكمان الدكتور
بشاي كان معدي بص عليه ،
قالوا دا كبر وانتهى ، إديت
شاهين بتاع البلدية ربع جنيه وشاله ومشي ،
لاحول ولا قوة الا بالله ،
وحد الله وما تزعلش نفسك ، دا مهما كان كلب ، وبكرة الواد سامبو يجيب
لنا واحد تاني ،
ينصرف حمادة إلي غرفته ، ليرتمي على فراشه النظيف الأبيض الزاهي ،
كأنما يلف روحه في ضمادة ،
محدثا نفسه ، دا مهما كان كلب ! ..
كان كلب بس له لازمة ، وياما
كتير مالهومش أي لازمة ،
كان كلب ، لكن كان له قلب ،
مليان وفاء وحب ورحمة ،
خدنا ايه من أكباد غليظة كلها
مناظر على الفاضي ..
حمادة ، إنت نمت ،
أيوه ياحسن ، هي الساعة كام ،
العشا هتدن ، وعايزك تراجع معايا الواجب ..
حاضر ياحسن ،
تقبل الله يا أخ عادل ،
منا ومنكم ،
أمال الكلب بتاعك فين ؟ إيه
مات ؟ ياللا ، احسن ، ماتعملهاش تاني وتجيب كلب ،
حمادة متجاهلا ، طب أستأذن علشان مستعجل ،
على فين ؟! ما تيجي تذاكر معايا ،
معلش ، هوصل للدكتور بشاي ، علشان طنط جورجيت تساعدني في الأنجليزي ،
لاحول ولا قوة إلا بالله ، نفسي أفهم غرامك بالمسيحيين دول ،
ماسك أوي في نادر جورج ،
ماسك أوي في نادر جورج ،
ودلوقتي رايح تاخد درس عند
جورجيت ، إيه مفيش مسلمين ، امال عايز تكون داعية إسلامي إزاي ؟!
بالعكس يا عادل ، دا أنا علشان أكون داعية إسلامي ، لازم يكون عندي
وفاء واحترام ومودة لأهلي وناسي ،
أهلك وناسك ؟ عادل مغتاظا ، يانهار أسود ، المسيحيين أهلك وناسك يا
حمادة ؟!
كل المصريين أهلي وناسي ، لاأفرق بين أحد منهم ..
عمي كان في الصاعقة ، شارك في
الإقتحام في ستة أكتوبر ، ومعاه سامي شاروبيم ،
عمي رجع سليم ، ومصر ضحت
بسامي شاروبيم !
بابا غايب عن البيت ،
والدكتور بشاي بيسأل علينا أكتر من أعمامي ..
كل دي حاجات بتحصل بين الناس والجيران ، لكن الدين حاجة تانية ، عادل
متبرما ،
الدين ، الدين .. كله بيقول الدين ، لكن ايه هو الدين الصح فيهم ؟!
يا سلام ، ما نتاش عارف الدين الصح ياحمادة ؟!
عارفه كويس ، والحمد لله ، وياما حضرت مع جدي الدروس في الجامع الكبير
،
وسمعت الدين الصحيح من الشيخ
الغزالي ، والدكتور البهي ، والشيخ عبد الحليم محمود ..
حببوني في دين الرحمة والوحدة ، والحب والعمار .. ما سمعتش منهم كلمة
غل ولاشقاق ولاهدم ،
محدش منهم قال في خطبة مرة ،
اتنكر لإخوانك المسيحيين وجافيهم ،
لم اسمع هذا الكلام الا
اليومين دول ، مع بداية حقبة الفظاظة والجليطة ،
متشكرين يا حمادة ، ربنا يهنيكم ببعض ، سلام عليكم ،
سلام عليكم ،
أهلا حمادة السكرة ،
ازيك ياعمو ، ازيك ياطنط ..
تعال ياحبيبي ، عامل ايه ، وانا فايت بصيت على عوكل ، معدتش ينفع
ياحمادة ، أجله انتهى ، معلش ،
ينتحي بحمادة هامسا ، الشيخ زغبي قابلني امبارح ، وبشرني ان بابا راجع
يوم الجمعة ، أنا متفائل ،
والله ياحمادة صبركم مش هيروح
هدر ، أمانة لما يرجع تقولي ، عايز أقعد معاه شوية ،
يا جورجيت ..
أجيب لك ايه ؟!
متشكر ، مش هقدر ،
لازم تشرب حاجة ، أتعشيت ؟!
لا لسه بدري ، مفيش لزوم للتعب ،
دا كلام ، هو انت فين وفين لما بتيجي ، هاتي له طبق بليلة يا جورجيت ،
بتعمل بليلة بالقشطة
والمكسرات روعة ، بالهنا والشفا ،
هيه ياحمادة ، عامل ايه في الإنجليزي ؟! مدام جورجيت بحنان أم ،
الحمد لله ، بس البركة في حضرتك برضه ،
فيه مجموعة في نفس الميعاد ده ، تلات تيام في الأسبوع ، تعال معاهم من
بكره ،
حاضر ،
وسهام ونادية ، كفاية عليهم مراجعة أسبوعية كل يوم حد ،
حاضر ، هقولهم .. تسلم ايدك على البليلة ، سلام عليكم ،
آنست ونورت ياحبيبي ، سلم على ماما كتير ،
يوصل ان شاء الله ، الله يسلمك يا طنط ،
الحق ياحبيبي ذاكر لك شوية ، عشاك عندك ، هدخل أنا أنام أصل
الضغط تاعبني ،
خدتي الدوا ،
هو عاد فيه دوا بينفع ياحمادة ،
هانت بابا جاي الجمعة دي ، أنا والشيخ ....
لا أنت ولا الشيخ ، ياريته ما ييجي ، اسم الله أوي من شطارته ،
ماتقوليش كدا ، خليها على الله بس ، وارتاحي انتي ،
بسم الله توكلت على الله .. نبدأ بالفيزياء واحنا لسه مصحصحين ..
يهمس منبه الشيخ زغبي الحنون ، لينهض حمادة للوضوء ،
قطرات الماء التي تتساقط من لحيته الصغيرة تشاركه أذكاره وأدعيته ،
يمضي الى المسجد لأول مرة دون
حراسة عوكل ..
يتذكر يوم أخذه من سامبو ،
وخبأه فوق السطوح خوفا من أبيه الذي لا يطيق الكلاب ، ويكاد يموت رعبا منها ،
كم شبع لعبا وجريا معه ، وعلمه كل شيئ ، حتى علمه ألا يلمسه ،
بناء على توجيهات جده الذي
نبهه لذلك قائلا :
( خللي الكلب مادام بتحبه ،
بس علمه ما يلمسكش ، علشان الصلاة ) ،
حتى كان يوما أسودا ، صادف
أبوه ، لدى عودته من الخارج ، عوكل يلعب على سلم العمارة ،
كادت الدنيا تنهد فوق راسه ،
والعمارة عن بكرة أبيها محتشدة على صراخ أبيه في وجه حمادة وعوكل ،
وعلى نباح عوكل المندهش من
هلع أبيه الغريب ..
والله يا كلب يابن الكلب ما
هسيبك ، هقطع الجزمة فوق دماغك ،
علشان انا قلت ميت مرة مفيش كلاب يعني مفيش كلاب ،
خلاص ، هدي نفسك يا معلم حسين ، اطلع انت بس ، واحنا هنتصرف ،النسوة
في صوت واحد ،
تسفر مناهدة طنط عايدة ، بعد شتم حمادة وضربه ، بالزامه بربط عوكل فوق
السطوح ..
ولو شفت خلقته تاني ، هقطع
رقابتك يابن الكلب ، حاضر يابابا ،
محاولا تقبيل يد الشيخ زغبي ، ليخفق كل مرة كالعادة ، تقبل الله يا
مولانا ،
ربنا يطرح فيك البركة ياحمادة ، مش هعطلك ،
رحت أنا لبابا وخلاص هيرجع
الجمعة على الغدا ، باذن الله ،
وصي ماما تبدع في الغدا ،
علشان أتغدى معاكم ، وحشني أكلكم ،
ياخبر يا مولانا ، دا داخلتك عندنا عيد والله ، تشرف وتآنس ، هقولها ،
ولو ان مزاجها مش أد كده ،
لأ ، بقولك ايه ، اعملوا معروف ، هطيروا لي الغدوة ، الشيخ زغبي يتألق
ضاحكا ،
روح للواد عادل مستنيك عند الباب ، الواد ده تقيل على قلبي ،
شكله كده هيطلع متطرف ، مش
لايق معاك خالص ،
معلش يا مولانا ، ربنا يهدينا جميعا ، السلام عليكم ،
يدلف حمادة من البوابة كعادته ، حاملا الفول والحليب ، ليلتقي بسلوى
خارجة ربما لشراء شيئ ،
بدت كصبح ندي منور ، أول مرة
يراها في ملابس المدرسة ،
يبزغ بياضها العاجي من وسط
ملابسها البنية ، كعيناها ،
ليكمل شعرها الفاحم على بلوزتها البيضاء ، وشفتاها الورديتان
المودعتان للطفولة ..
لوحة بستان مزدان في البكور ،
مرتبكا ، مطرقا ، السلام عليكم ، ازيك يا سلوى ،
متأملة بعينيها الواسعتين ، صباح الخير يا حمادة ، انت لسه فاكرني ،
ولا الدين قالك تنسى .. حباي .. قصدي جيرانك ؟!
ابدا والله ، الوقت ملخبط ، لكن أنا مش ممكن أنساكي أبدا .. دا احنا
أخوات ،
بعد أذنك علشان اخواتي
هيتأخروا ،
طب أشوفك ازاي ، ولو خمس
دقايق ،
يوم الجمعة ان شاء الله ، مع السلامة ، لم تنزل سلوى عيناها عنه حتى
غاب ،
يجلس حمادة بالبلكونة بانتظار الفطور ، شاردا
..
ماذا
تفعل به عيني سلوى ، مال نظراتها تنفذ كسهام تعرف طريقها الي قلبه ،
لا
يعوقها غيابه وانشغاله ، ولا يحرفها عن هدفها تدينه والتزامه ،
هل من الممكن أن يجمع بين الإلتزام بالإسلام
.. والحب ؟! لم يسمع من قبل عن داعية يحب ،
ولكن كيف يعيش بلا حب ، انه لايجترح خطيئة ،
انه يحب حبا نظيفا بريئا ،
لم
يشتهي يوما سلوى كجسد ، بل يهوي اليها كروح جميلة ،
ينظر
الى حسنها على أنه آية في الجمال ، لا مادة للإثارة والغواية ،
هل يعد منافقا ، وفي قلبه مرض ، اذا أخفى
زاده من الحب والفن ، في طيات روحه وقلبه ، وهو يركب قطار الإخوان ؟!
حمادة ، بس لو أعرف ايه اللي في دماغك ،
مفيش ياماما ، جاهز يا حسن ، جاهزين يابنات ،
يابني ، طب كل السندوتش الصغير ده ، واشرب
الشاي ،
خلاص ياماما ، أتأخرنا ، اخدت فطار معايا ،
وفيه وجبة في المدرسة ،
السلام عليكم ، دعاء الخروج يا سونة .. بسم
الله ، توكلت ....
كتيبة صفا .. كتيبة انتباه .. الإذاعة ،
بسم الله الرحمن الرحيم ، السيد الأستاذ مدير
المدرسة ، سيادة العميد قائد المدرسة ،
الأساتذة الأجلاء ، الأخوة الطلاب ،
أخوكم في الأسلام ، عادل الزيني ..
هذا
موعدكم مع اليوم المخصص للجماعة الأسلامية ، وخير ما نبدأ به ، القرآن الكريم ،
والصوت العذب للأخ الطالب أحمد عرجان ...
تتوالى الفقرات المتنوعة الدسمة ، التي سهر على
اعدادها حمادة وأخوانه ،
وأصبح الطلاب ينتظرونها كل ثلاثاء ، في اليوم
المخصص للجماعة ،
وسط
تأفف المدير والقائد من طول وقت الطابور في هذا اليوم ،
ليأتي دور الكلمة الأسبوعية ..
والآن مع كلمة الجماعة الإسلامية ، والأخ
الطالب محمد حسين جميل النادي ،
يتقدم حمادة بهدوء وثقة ، يمسك بيده ورقة لم
يفتحها ، يقترب من الميكروفون ،
لينطلق صوته قويا دون صياح ، واضحا دون تقعر ،
مرتجلا دون تلعثم ،
مستقيم اللسان ، سليم المنطق دون تكلف ..
بسم الله ، والحمد لله ، والصلاة والسلام على
رسول الله ، صلى الله عليه وسلم ،
أحبتي في الله ، السلام عليكم ورحمة الله
وبركاته ، قال الله تعالى ، في محكم التنزيل :
{انْفِرُوا خِفَافًا
وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ۚ
ذَٰلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} التوبة -41 ،
وعن أبي هريرة ، قال :
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
من مات ولم يغز ، ولم يحدث به نفسه ، مات على
شعبة من نفاق ! رواه مسلم ،
لايخفى عليكم اخواني ، ما
يحيط بأمتنا من تآمر وكيد ، وما يحيق بها من سوء ومكر ،
سواء من غرب صليبي حاقد ، أو
من شرق ملحد مارق ،
فمن لإمتنا ، ان لم يكن
شبابها الأطهار الأماجد ؟!
فأقبلوا أيها الشباب
ولاتخافوا ، واستقيموا على الطريقة ولا تفرق بكم السبل ،
واجتهدوا وتفوقوا ، ولا
تقعدوا وتتبلدوا ، بل كونوا على قول طرفة بن العبد في معلقته :
إِذَا القَوْمُ قَالُوا :
مَنْ فَتَىً ؟! خِلْتُ أنَّنِـي ، عُنِيْـتُ ، فَلَمْ أَكْسَـلْ وَلَمْ
أَتَبَلَّـدِ !
أمتكم في ظرفها الدقيق الراهن ، تستصرخكم فلا تخذلوها ، تنتظركم فلا
تتأخروا عليها ، بل سددوا وقاربوا ،
( وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ
حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ
حَرَجٍ
مِلَّةَ أَبِيكُمْ
إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ
الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ
فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ
وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى
وَنِعْمَ النَّصِيرُ )
الحج – 78 ،
الحج – 78 ،
والسلام عليكم ورحم الله
وبركاته ..
لتنطلق عاصفة مدوية من التصفيق ، تصيب حمادة بمشاعر مختلطة ،
من الخجل والخوف من الغرور
والرياء ، وعظم المسئولية التي سيحملها صغيرا ..
لم يعد حال المدرسة وحال حمادة وزملاؤه ، بعد كلمته الأولى في الطابور
، كحالهم قبلها ،
اذ أبدى
معظم المدرسين اعجابا به
لحد الأنبهار ..
انت كنت مستخبي فين ياابني ،
تقولش حسن البنا اللي بيتكلم
،
خد ياواد تعالى ، يخرب عقلك جبت الكلام دا منين ، دا أنا معرفش أقول
كلمتين من دول على بعض ،
ازيك بارك الله فيك ، الله
ينور عليك ، قولتلي اسمك ايه ...
بل وصل الأمر ببعض المدرسين
الأوائل أن يعرضوا عليه المساعدة بالدروس الخصوصية مجانا في موادهم ،
كذلك استدعاه مدير المدرسة
بصحبة الأستاذ اسماعيل حسونة مدرس الدين ، ليحيه ويشجعه ،
ويفهم منه قصة الجماعة الأسلامية ، لينتهز الأستاذ
اسماعيل الفرصة وينسب لنفسه كل شيئ بفخر ،
الا أن هذا لم يمنع المدير من الثناء على موهبة حمادة اللغوية
والخطابية المبكرة ،
ويشجعه ويحثه على الأستمرار !
أما المدرسة ، فقد دبت فيها الروح ، وأضحت وكأنها خلية نحل ..
لتغطي جدرانها المجلات الحائطية
التي تسابق الجميع في الإبداع في شكلها ومحتواها المتنوع ،
عن الدين والسياسة ، العلم والفن ، الثقافة والرياضة ..
وكان نادر جورج ممن أظهروا،
حماسا في الإشراف على نشاط المجلات الحائطية ،
بعد أن أسنده اليه حمادة ،
بذكاء ، لإستيعابه واستغلال موهبته الفنية ، فضلا عن حبه الشديد لحمادة ،
أما الدورات الرياضية التي
برع في تنظيمها هشام الأطروش ، وشاركه فيها نادر جورج ايضا ،
بحكم
تلازمهما ، فقد أشعلا فيها نار الحماس وأججاها بصفارة رياضية لاتهدأ ،
فلم
تعد تمر ساعة بالمدرسة دون أن تعلو الهتافات على لهيب المنافسات في رياضة من
الرياضات ،
فضلا
عن سلسلة من الرحلات ذات الطابع الثقافي والترفيهي ، للحدائق والمتاحف والجامعات
المجاورة ،
تعاون في تنفيذها بشكل منظم ورائع ، عادل الزيني
وأحمد عرجان بالتنسيق مع حمادة ،
في الوقت الذي نسي فيه حمادة مذاكرته لأنهماكه في إخراج مجلة للجماعة
،
أطلق
عليها اسم : شباب على درب محمد ، وإعداد محتواها من صور ومقالات وأخبار وفقرات ،
ساعده في طباعتها بطريقة الإستنسل البدائية ،
الأستاذ شوقي عبد الجليل ، جارهم ، بسعر التكلفة ،
بعد
أن أضطر ، لأول مرة ، أن يخفي عن أمه الزيادة الطفيفة في أجره ، عن انتاجه الأضافي
،
ليغطي العجز في مساهمات زملاؤه في الجماعة ،
والتي لم تكفي لتكلفة المجلة والأنشطة ،
لاسيما وأن المدرسة لاتقدم لهم أي دعم مالي !
بالكاد يلحق الركعة الأخيرة من المغرب مع
الشيخ زغبي ، ليسرع الى البيت ، يسلم أمه اليومية ،
ويشوف طلباتها ، يخطف له لقمة ، ويشوف واجبات
أخواته ، يكمل ملابسه على السلم ،
ليدرك صلاة العشاء في جامع الولي ، ليصحبه
عادل الزيني ،
الي
الأستاذ سعيد الدياسطي ، أستاذ المعهد الأزهري ،
الذي يعتقد الزيني أنه من الإخوان المسلمين ،
لمظهره الوقور الهادئ ، وتوافد الملتحين الي
بيته زرافات ،
ايه ياحمادة ، ساعة بتصلي السنه ، أهو الراجل
سبقنا علشان معاه ضيوف ،
تقبل الله ، ياعادل ، اتفضل ،
يعبر عادل الشارع ليدلف إلي حارة سد ، ضيقة
مظلمة ، في صدارتها بيت قديم ،
لينحشر، هو و حمادة ، في مدخل ضيق كئيب كأنه
سرداب ،
يطرق بابا لايرى في الظلام ،
يطرق بابا لايرى في الظلام ،
من بالباب ؟! صوت طفولي مسرسع يتسرب من فتحات
الباب ،
السلام عليكم ، الأستاذ موجود ؟!
تطلق مفصلات الباب الصدئة ، مع خشبه المتهالك
، موسيقاهما الجنائزية ، اززززززززز،
فينفرج ككوة ، مسفرا عن الأستاذ المضيف ،
شديد الهزال ، في جلباب بسيط ، ذو لحية كأنها
نتف من صوف ، على وجه معضم ،
تحتوي رأسه الصغير طاقية من الدبلان الأبيض
المشوب بالصفرة ، كوجهه ،
مرحبا بصوت واهن ، أهلا بالأبناء الأحبة ،
تفضل يا أخي ..
وسع طريق ، يا
حذيفة ،
يبدو حمادة في تمسحه وتأففه وخجله ، وكأنه
يدخل تحت إبط عادل ،
الذي
اضطر لإنحناءة خفيفة من قامته الطويلة ، ليتفادى حافة الباب ( الكوة ) ،
لينزلقا إلي ممر نحيل خافت الإضاءة ، مشبع
بالرطوبة ورائحة الحلبة ،
ومنه
الي غرفة ضيقة ، سيئة الإضاءة والتهوية ،
ترن فيها أصوات اندفاع المياه بمواسير الصرف
، النازلة من خلفها ،
كلما
استعمل أحد من ساكني الطوابق الأعلى ، منافعه ، لايغالب رائحتها الا رائحة الحلبة
اللعينة ،
لطخت
جدرانها العارية من أية صور أو لوحات ، بدهان الجير الأزرق المستفز ،
الذي
يتساقط معظمه ، ليعري دهانا قديما كالحا ،
على يمين الداخل أرفف خشبية عشوائية ، دون
دهان ، بدت كعظام مسلوعة ضربها الكساح ،
بعثرت فوقها كتب متربة ، بعضها راكع ومعظمها
ساجد ،
الأضلاع الثلاث المتبقية من المربع الضيق ،
تشغلها كنبات قديمة ، مهلهلة الكسوة ،
أحتلها أربعة متقاربي الهيئة ، لم يبدي أي منهم
اكتراثا للقادمين ،
ينحني كل منهم في جلبابه المصفر القصير الرث ،
وقد
وضع ذقنا ، أنبتت لحية كثة منبعجة ، على شومة مهولة ،
يبحلق بعينين ذاهلتين ، ويتفتف بطلاسم مبهمة ،
يحمل فوق رأسه عمامة ملخفنة ومقيحة ،
يحمل فوق رأسه عمامة ملخفنة ومقيحة ،
جلس الأستاذ سعيد في صدارة المجلس ، وأفسح
جواره لعادل الزيني ،
ليقبع حمادة في طرف قصي أقل إضاءة ، يبدو فيه
كعصفور يختبئ بشجرة عجوز ، في ليلة مطيرة ،
أهلا يا أحباب ، نورتونا ، حظكم حلو ، إنكم
جيتم والأخوة الأفاضل دول هنا ،
فرصة
تتعرفوا عليهم ، وعلى جماعتهم الطيبة المباركة ،
إتفضل يا أخ عبدالعال ..
طرق مكتوم على الباب ، ليمد الأستاذ يده
لتعود محملة بصينية كبيرة تراصت عليها فناجين الحلبة ،
ليقترب حمادة من حافة الإغماء ، فلم ينفر من شيئ
في حياته ، مثلما ينفر من هذا المشروب الأصفر ، كوجه المريض ،
أخوكم عبد العال الدنابيقي ، أبو طلحة ، مدرس
إبتدائي ، إن شاء الله ،
أخوكم ياسر محمد على ، دبلوم صنايع ، ان شاء
الله ،
أخوكم محمود فجلة ، تاجر ،
أخوكم متولي ناصف طاحون ، أبو رفيدة ، موظف
بالحكم المحلي ..
اتفضلوا ياشباب ، عرفوا أنفسكم واشربوا
الحلبة ،
أخوكم عادل الزيني ، ثانوية عامة ،
حمادة مختنقا ، محمد جميل النادي ، ثانوية
عامة ،
بينما ينهمك الشيخ عبدالعال ، في إفراغ محتوى
الفنجان من الحلبة ، ليسكبه في طبق الفنجان ويشرب منه ،
لتتناثر قطراتها على لحيته وجلبابه ، في مشهد
يخرج حمادة من عزلته ..
ما بتشربش من الفنجان زينا ليه يا أخي ؟!
دي سنة النبي ، ان شاء الله ،
يغمز عادل بعينه الي حمادة ، كانه يرجوه أن
يصبر ،
ليعود حمادة الى ركنه القصي ، كاظما غيظه ،
وكأنه لم يسمع هذا الهراء ،
بسم الله ، والحمد لله ، والصلاة والسلام على
رسول الله ،
عليه صلوات الله ،
احنا يا اخواننا ، بنخرج في سبيل الله ، نبلغ
كلمة ربنا للناس ، تنفق من وقتك في سبيل الله ،
ساعة في اليوم ، يوم في الأسبوع ، شهر في
السنه ، وهكذا ان شاء الله ،
وذلك عملا بقول الله تعالى : " يَا
أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ
تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ
وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ
النَّاسِ إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ " المائدة - 67
ممكن أسأل سؤال ، يا أستاذ ؟ حمادة متحفزا ،
اتفضل ،
وبعدين يأخي ؟! وبعد ما تبلغ الناس الآية والحديث وتمشي وتسيبهم ؟!
يا أخي الكريم ، قال تعالى : " فإن أعرضوا فما أرسلناك عليهم حفيظا
، إن عليك إلا البلاغ .. " الشورى -
48
أيوه بس النبي عليه الصلاة والسلام ، خالط من يدعوهم وعايشهم وتعهدهم
بالرعاية والتربية ،
الإختلاط بالناس والأحتكاك بهم ، ربما يفتح بابا للشقاق والجدل ، فيبدد الجهد ، الأخ عبد
العال متحفظا،
كيف والنبي يقول : " من يخالط الناس ويصبر على أذاهم ، خيرا ممن
لايخالط الناس ولا يصبر على أذاهم "
الأستاذ سعيد متدخلا ، لاتعارض بين الفكرتين ان شاء الله ، ايه رأيكم
تخرجوا معانا يوم الجمعة ؟!
ربنا يسهل ، بس اسمح لنا نستأذن حالا ، علشان المذاكرة ، جزاكم الله
خيرا ، حمادة متأهبا ،
اتفضلوا ، وحاولوا تخرجوا معانا الجمعة باذن الله ،
السلام عليكم ،
في حفظ الله ،
ايه ياحمادة ، مالك عاملت الناس بتأفف كده ، وغلست عليهم ، وبعدين
قمنا من غير ما نجيب سيرة الإخوان ؟!
أسكت يا عادل ، أنا مصدوم ، ومتألم جدا ..