1- بائعة الجرجير
في غدونا و رواحنا ، الشمس وأنا ، نمرعليها ، في ركن من الرصيف ،
تنحني متكورة وسط كومة عشوائية من الخضرة ، فجل وجرجير ، شبت وبقدونس .. الخ تلك البضاعة البسيطة الرخيصة .
اسمها " صبيرة " ، حتى اسمها مفعم بمرارة الصبر !
لم يبقى لها من أنوثة الأنثى الا صفتها الممهورة في شهادة الميلاد !
شاحبة هزيلة عجفاء ، غائرة العينين ، مجهدة ، غضة الأهاب ، عليها ثياب رثة كالحة كأسمال خلقة !
منهمكة هي في فرز وتنظيف وترتيب بضاعتها الفقيرة البسيطة ،
بالكاد من آن لآخر تزدرد لقمة جافة غمستها بجبن قديم ، بيد مرتعشة تلتقطها كعصفور قلق !
تبدو وكأنها تستعد لمناكفة يوم جديد من صلف الزبائن وشحهم ،
وهرسهم لخضرتها وضنهم عليها بقروش هزيلة – مثلها - لاتغني ولاتسمن !
أقبل عليها باسما بحنان ، صباح الخير يا أمي ..
يسعد صباحك يابيه ،
كيف حالك ؟!
الحمد لله ، رضا ، وأقل من كده كمان !!
( تقولها وعيناها تلمع بتسليم وقناعة ، بتعفف وشرف ، بصبر وجلد .. لو وزعت على أهل الأرض لصافحتهم الملائكة ) !
اعملي حسابي في شوية خضرة زي كل يوم ، وأنا راجع آخدهم ،
.. من عينيا ،
مش عايزة حاجة ؟!
.. أعوزك طيب ، الله يسترك يابيه ، تتمتم ، الحمد لله ، نحمده .
أمضي خجلا أتسائل ، ألم يسع تلك المسكينة أن تشحذ فتكفي نفسها مؤونة (المرمطة ) على الرصيف ،
تتقاذفها أرجل الحر والبرد ، الغادين والرائحين ؟!
كيف تركت الأيام لتوصلها الي تلك الحال البائسة ، لتجردها من أوراق شجرتها ورقة ورقة ،
لتهدم بنيان شبابها ، أنوثتها وربما جمالها لبنة لبنة ، كيف ؟!
ترى ماهي النقطة الحرجة التي تدفع الأنسان ليسلم يديه لقيد الفقر والفاقة ..
أصوله ، بداياته ، ثقافته ، أمكانياته ، حظه ، قدره ، خيبة أمله ، أختياره .. ؟!
لم تتجشم صبيرة تلك المعاناة الرهيبة ؟ أمن أجل كسرة الخبز المغموسة في الجبن القديم ؟!
أم لثياب لن تستطيع شرائها ، أم لزوج خرج ولم يعد ، لولد لم ترزقه أصلا ،
لراحة لم تحوزها يوما .. من أجل ماذا تشقين هذا الشقاء ، يا " صبيرة " ؟!
ينقضي نهاري ، لأعود مع شمس ماقبل الغروب ، نتفقد " صبيرة " ، التي لم تعد تعرف سوانا !
لأجدها مختفية خلف ظل ثقيل ، لكائن طرير ، يلبس بذلة رخيصة داكنة ، ويضع نظارات سوداء على وجه صخري
.. بجنيه جرجير ياولية
.. عينيا يابيه
ايه ده ؟ تلاته ؟ دا أربعة فى كل حتة .. بطلي افترا
.. وماله يابيه ، ومن غير فلوس
.. يرمي لها بيد جنيها ورقيا ممزقا ، وباليد الأخرى ( ينتش ) الجرجير ،
يقلبه وينكشه ويلقي بما لايروقه بين يديها ، لتستبدله في صمت واحتساب !
في الوقت التي تجلس فيه احداهن القرفصاء ، تهجم على الخضرة بمقدمة نافرة ، وتزحم الطريق بمؤخرة ظافرة !
.. أخلصي يا ولية ، عايزة أمشي ، دول بكام ؟!
( وقد جمعت بكفيها المنتفختين خلاصة مالدى صبيرة من بضاعة ، فقط لم يبقى الا أن تبتلع صبيرة نفسها ) !
.. اللي تجبيه ياست الكل ،
.. خدي واحمدي ربنا ، وترمي لها بجنيها وربع الجنيه ، وتمضي غير عابئة ، رضيت المسكينه أم سخطت !
أقترب هامسا ،
.. سلام عليكم ، أزيك يا أمي ،
.. نحمده يابيه نحمده ، طلبك أهه ،
.. بخجل وتردد أدس في كفها مبلغا ، لاعلاقة له بالخضرة وثمنها ،
تنتفض لترد مازاد على حقها ، تتمتم مطرقة في خشوع ،
.. يابني ، الله يحنن عليا وعليك ، ماكنتش قعدت القاعدة دي ، هو أنا حيلتي الا كرامتي !
يا الهي ، كرامتها ، فعلت بها الأيام والليالي الأفاعيل ، جردتها من كل شيء ، ولم تقدر على كرامتها !!
.. تمضي الأيام ، ولا أيأس من التحايل لمساعدتها بأي شكل ،
أمر عليها في أحدى المرات فأجدها شاحبة على شحوبها ، ذابلة على ذبولها ،
ترد تحية الصباح متعبة منهكة ، تنظر الي بعينين مغرورقتين بالدموع ، نظرة أمتنان وامل !
خير يا أمي ، مالك ، أأنتي بخير ؟!
.. الحمد لله أنا دائما بخير ، ربنا يخليك لأولادك يابيه ، أتوكل على الله .. ترجع بالسلامة تلاقي طلبك !
أعود لآخذ وجبتي من الخضرة ، التي تعرف أنني ربما لاأحتاجها !
وأجرب تلك المرة أن أدس بكفها الضعيف مبلغا من المال ، لأفاجا بها ترمقني بنظرة لم أر مثلها في حياتي ،
في جزء من الثانية ، جمعت صبيرة في نظرة عينيها صراعا رهيبا بين التعفف والأضطرار ،
بين طول الصبر وألم الأنكسار ، بين وحدة الكرامة الفردية وونس الأخوة الأنسانية !
قبضت بيدها على النقود وكأنها جمر ! أطرقت وبعين دامعة تنهدت ، تردد الحمد لله .. الحمد لله ،
لاحقتني قائلة
.. بشرط ، دول سلف يابيه !
بت مؤرق الجفن مما دفعها للتنازل وقبول ما تعتبره ( سلفة ) حتى كان النهار ،
مررت من أمامها متعجلا لـتأخري عن عملي ، لألمح الي جوارها ..
كيسا مملوءا بالأدوية !!
محمد صلاح
6 رمضان 1432
6 أغسطس 2011
محمد صلاح
6 رمضان 14326 أغسطس 2011
انا واثقه لو كانت صبيره الصابره قرأت ما كتبت عنها لما استطاعت ان تصف نفسها وحالها ومكنونها مثلما وصفت استاذى لقد عشتها وتخللتها حتى انناعشناها بدورنا من خلال كلماتك . ان ايامنا وطرقاتنا للاسف ملىء بصبيرات كثيرات والحنون منا من يرمقهن بنظره عطف ثم بنسى . اما صبيرتك فمن رحمة الله بها انك من تعهدها ولو بكلمات تذكرها انها انسانه تستحق التعاطف والاحترام وهذا لا ينبع الا ممن هو.... انت
ReplyDeleteطرح النهار على سكته ناسه ..منهم صابح عليل و التانى صابح غرير ..و ده شارب للهوان كاسه .. و دى لابسه ع الطوى خيشه .. و دى تخمه لابسه حرير .. و أنا ع الرصيف إندلق وجعى..لاجل اللى قاطع للهموم مشاوير .
ReplyDeleteأما (صبيرة) فسبحان من جعل لها من إسمها نصيب، و أما التساؤلات عن كيف ؟ و لماذا ؟و لم ؟ ففتح لباب لم يغلق فتحه الفلاسفة من قديم و مضوا وبقى كما هو ، أما صبيرة بقايا كل شئ - فعنوان للإنسان كما كرمه ربه - .
ReplyDeleteأعجبنى محافظتك على الإيقاع الذى يلائم (صبيرة) نمر عليها - فى ركن الرصيف - متكورة - ثم وصفها شاحبة هزيلة عجفاء ، غائرة العينين ، مجهدة ، غضة الأهاب ، عليها ثياب رثة كالحة كأسمال خلقة !ثم إنتفاضة الكرامة عندما دسست فى يديها ما زاد عن حقها ثم الإنكسار و قلة الحيلة يقابلهم الإصرار و الجلد ،يدفعها لقبول (الهبة) كسلفة ..عبرت الألفاظ عن المعانى و عبرت بنا المعانى إلى آفاق رحيبة من علو الهمة و الكرامة .. شكرا
كالعاده بتمتعنا بكتاباتك الشيقة واسلوبك المميز ولكني لا اعزف لماذا وانا اقرأ الحكاية رأيت في شخص صبيرة بلدنا الحبيبة مصر فاحوالهما متشابهة فمصر كانت كالعروس تتمايل بين البلدان ولا يشبهها احد في جمالها ولافي قوتها الي ان اتي النظام السابق الفاسد الذي سرق ثرواتها وهيبتها مثلما سرقت الحياه من صبيرة صحتها وعمرها وحياتها واصبحت مصر مثل صبيرة منحنية ولكن الشيء الوحيد الذي تبقي هوا الكرامة مثل صبيرة التي ترفض ان تحني راسها وتتسول بل صارعت الحياه وظلت تبحث ان لقمه العيش مهما كانت الظروف صعبة .. فانا اري بمساعدتك لصبيرة بالثورة التي غيرت مجري حياه مصر كما غيرت انت حياتها بمساعدتك لها فالثورة اعطت الدواء لمصرلكي تتعافي من انكسارها ومرضها ولكن لن يمدث هذا في لمح البصر فما حدث لمصر وما مرت به لاكثر من ثلاثون عام ليس بالقليل لكي تمحو اثاره سريعا وتلتئم جروحه بالظبط متل ما يحدث من مفعول اي دواء فيحتاج الي وقت لكي تظهر اثاره ويستطيع ان بزيل المرض والعله وينفض الغبار من علي جسد صبيرة وتشد من حيلها لكي تستطيع ان تقف مرة اخري مرفوعة الراسوترجع الي ما كانت عليه .
ReplyDeleteالله الله الله الله
ReplyDeleteحسااااااااااااااااااااااس جدا يا أستاذي
والله من أجمل ما قرأت في حياتي
" تعرفهم بسيماهم لا يسألون الناس إلحافا "
ReplyDeleteما أجمل هذه العفة والعزة !