2 - الحرامي !
حظيت ببعض التدليل بمدرستي الابتدائية ، أحد مظاهر هذا التدليل ، أن أظفر بالجلوس بمقدمة الفصل ، بجوار النافذة ،
حيث أتحين الفرصة لاسبح في الفضاء الأخضر المنبسط الفسيح ، كحجر أم حنون براح !
ذات يوم ، وبينما يحل التثاؤب والكسل محل التصايح والشغب ، ايذانا بقرب غروب شمس يوم دراسي ،
أسرح بنظري خارج النافذة ، لمحته قادما ، أنبثق وكأن الأرض أنشقت عنه !
بدا من بعيد كشبح أسود يخرج من ضباب ، وكلما أقترب أسفر وبان ..
رجل أربعيني ، طويل القامة أبنوسي البشرة ، يلبس جلبابا داكنا رثا عليه معطف لايخلو من رقع ،
يحمل على ساعده الأيسر " سبتا " من الخوص ،
يقبل مندفعا الي الأمام ، شاخص البصر، و كأنه يمضي لمعاتبة أحدا جرح روحه جرحا غائرا !
يدق الجرس ، ينطلق الأولاد نحوه فرحين ، وأنا في اثرهم ،
يتصايحون : الحرامي جه ، الحرامي جه !
يستقبلهم فرحا هاشا ، يداعبهم ويمسح على رؤوسهم بحنان ، مناديا :
خد مصاصة ، حلي واكسب ..
وان ماكسبتش اياك تزعل ..
بكره هتكسب ، بكره هتكسب !
يقبع في " سبته الخوص " المعلق بساعده الأيسر ، لفافات ورقية من حلوى رخيصة ،
صنعها من السكر والماء والليمون وماء الورد ، ودس في واحدة من كل عشر منها ، قرشا على سبيل الجائزة لمن يحالفه الحظ ويكسب ،
( وكأنه يصعب عليه أن يأخذ قروش الصغار ، فيتحايل لردها لهم ، مااستطاع ) !
أقترب منه وجلا، مندهشا متفحصا ..
ينتعل حذاءا ممزقا، يفضح قدمين شققهما سعي دؤوب لاهث !
شعره الناعم الغزيرالمغبر ، يتراقص بنشاط على جبهته العريضة الكادحة ، يشاغل عينيه الحمراويين المبللتين ببقايا دموع حارة قديمة ، يبدو وكأن كل شيئ تخلى عنه ، حتى أسنانه تركت فمه خاويا على عروشه !
يلمحني شاردا فيقبل نحوي مخترقا حصار أحبابه الصغار ، يضع كفه على رأسي ،
فأشعر بغليان قلبه ،
يبادرني : اسمك ايه ياشاطر ؟! محمد ..
انا أيضا اسمي ، محمد !
محمد ؟! فلما ينادونك ب " الحرامي " ؟!
حكاية طويلة ..
تعال خد مصاصة ، يمكن تكسب ..
أتراجع ، متوجسا ، خوف ينتابني وحيرة تلفني !
أنى لهذا الرقيق الحنون ، الذي يبدو في تراقصه ومرحه وسط أحبابه الأطفال ،
كعصفور جريح ،
أنى له أن يكون .. " حرامي " ؟
الهي ، أهذا يسرق ؟! ولماذ يسرق ؟! وماذا سرق ؟! ومن ؟! ومتى ؟!
قلبي الصغير الناصع ، الذي لايكذبني أبدا ، يقول لي أنه ضحية ، تعرض لظلم فادح ، ربما من عزيز لديه !
أعرف ذلك من بحة صوته الباكي ، من عينيه الحمراوين الدامعتين ، من لهاثه المتصاعد من قلب محموم ،
من بنيانه الذي يبدو وكأنه تهدم بفعل فاعل طاغية أحمق غشوم ، دهس شبابه الزاهر ،
من انحناءة خفيفة في أعلى ظهره ، ربما من أثر ضربة غادرة لم يتوقعها من الأيام ،
من نظرته الشاخصة المعاتبة ، المسمرة على طيف قاتله الذي لايفارقه !
تنفد الحلوى وينفض الصغار مودعين " الحرامي " من كسب منهم ومن لم يكسب !
وأبقى أنا يغمرني التأثر ويدفعني الفضول ،
لأتبعه في عودته ، أرقبه يمشي مندفعا الى الأمام ، شاخص البصر ، لايلوي على شيئ ،
حتى ينعطف الى مطعم صغير ، يلتقط رغيفين ، يضع عليهما أقراصا من الفلافل الساخنة ، رشة ملح ،
يستند الى حائط ظليل ، يزدرد طعامه بفتور ، كمريض فى نقاهة، يلتقط " قلة " الى جواره ، يصب ماؤها في جوفه كمن يطفئ حريقا !
ينهض متجها الى صاحب المطعم ، يعطيه قروشا ،
يظل يفركها ويتحسسها ويقبض عليها كمودع لحبيب ،
ففيها دفء وحنان وبراءة أكف أحبابه الصغار !
يستأنف مسيره ، فيلحظني ..
روح ياشاطر ، روح يا شاطر " علشان أمك متقلقش عليك " ..
أريد أن أعرف الي أين تذهب ..
أنا لا أذهب الى مكان ، أمشي بانتظار الصباح ، لأعود الى حضن .. أحبابي الصغار !
.. تمر الأيام ، ويبوح لي " الحرامي " بحكايته ..
كنت طفلا جميلا مثلك ، لأم بارعة الجمال ، سابغة الحنان ، وأب بادي الفتوة والشباب ، بالغ الثراء ،
تغمسني أمي فى حنانها و يغمرني أبي بتدليله ، وبينما أتقلب بين الحنان والتدليل ، اذا بعاصفة هوجاء ، عمياء بلا قلب ،
تخطف أمي على غرة ، في مرض ألم بها فجأة ، فذابت وتلاشت ، ولقيت رب كريم ،
لأصبح بجناح مكسور وقلب خائف مذعور !
لم يمض وقت طويل ، حتي تزوج أبي من امرأة فاتنة لعوب ،
من أول نظرة نارية سددتها لي ، من عينيها المتوحشتين ، فهمت أنني غير مرغوب في ، وأعددت نفسي للطوفان ،
طوفان ؟! أي طوفان ؟! وأبي معي ولن يتخلى عني أبدا !
سرعان ما أسفرت المرأة المحتلة ، التي أحتلت قلب أبي وفراش أمي ،
عن عبوديتها للذهب وشغفها بالمال ولهفتها على الرجال ، المزيد من الرجال !
ولكي تنعم بحريتها ، وتنصب خيمة عبثها الماجن ، كان عليها أن تكسر قيدا يقيدها ، بل يخنقها ، هو أنا !
ظلت تحفر الأخاديد بيني وبين أبي ، الذي كان حبيبي ، حتي اذا أتسع الأخدود وتعمق ،
سكبت فيه وقود خستها ، وأشعلت نار غلها الفاجر ، وألقتني فيه بلا رحمة ، لتتهمني بسرقة مصاغها !
في البداية لم أعبأ لفريتها ، لرهاني على قلب أبي المحب لضناه ، لكن سرعان ماهان علي ظلمها وتواضع ،
أمام صفع أبي الغادر المتلاحق ، أبي الذي ألقى بي كنفاية على قارعة الطريق !
لم أرد عليه الا بنظرة عتاب ، مازلت أنظرها لطيفه الماثل أمامي ،
وسأظل أسددها له حتي يحكم الله بيننا !
همت على وجهي ، لم يعد يعنيني من الدنيا شيئ بعد غياب أمي وسقوط أبي ،
كلما سألني أحدهم .. ما أنت ؟ أقول : الحرامي ،
لأبقي نار الغضب مستعرة في قلبي ليوم الحساب !
عدت الى الأطفال ، حيث لم أظفر من دنياي الا بطفولتي ، أعيشها معهم كل نهار ،
ثم أمضي في طريقي لاواصل معاتبة طيف أبي ،
أبي الذي كان حبيبي !
ترى يا محمد ، من الشريف ، ومن .. " الحرامي " ؟!
10 أغسطس2011
حظيت ببعض التدليل بمدرستي الابتدائية ، أحد مظاهر هذا التدليل ، أن أظفر بالجلوس بمقدمة الفصل ، بجوار النافذة ،
حيث أتحين الفرصة لاسبح في الفضاء الأخضر المنبسط الفسيح ، كحجر أم حنون براح !
ذات يوم ، وبينما يحل التثاؤب والكسل محل التصايح والشغب ، ايذانا بقرب غروب شمس يوم دراسي ،
أسرح بنظري خارج النافذة ، لمحته قادما ، أنبثق وكأن الأرض أنشقت عنه !
بدا من بعيد كشبح أسود يخرج من ضباب ، وكلما أقترب أسفر وبان ..
رجل أربعيني ، طويل القامة أبنوسي البشرة ، يلبس جلبابا داكنا رثا عليه معطف لايخلو من رقع ،
يحمل على ساعده الأيسر " سبتا " من الخوص ،
يقبل مندفعا الي الأمام ، شاخص البصر، و كأنه يمضي لمعاتبة أحدا جرح روحه جرحا غائرا !
يدق الجرس ، ينطلق الأولاد نحوه فرحين ، وأنا في اثرهم ،
يتصايحون : الحرامي جه ، الحرامي جه !
يستقبلهم فرحا هاشا ، يداعبهم ويمسح على رؤوسهم بحنان ، مناديا :
خد مصاصة ، حلي واكسب ..
وان ماكسبتش اياك تزعل ..
بكره هتكسب ، بكره هتكسب !
يقبع في " سبته الخوص " المعلق بساعده الأيسر ، لفافات ورقية من حلوى رخيصة ،
صنعها من السكر والماء والليمون وماء الورد ، ودس في واحدة من كل عشر منها ، قرشا على سبيل الجائزة لمن يحالفه الحظ ويكسب ،
( وكأنه يصعب عليه أن يأخذ قروش الصغار ، فيتحايل لردها لهم ، مااستطاع ) !
أقترب منه وجلا، مندهشا متفحصا ..
ينتعل حذاءا ممزقا، يفضح قدمين شققهما سعي دؤوب لاهث !
شعره الناعم الغزيرالمغبر ، يتراقص بنشاط على جبهته العريضة الكادحة ، يشاغل عينيه الحمراويين المبللتين ببقايا دموع حارة قديمة ، يبدو وكأن كل شيئ تخلى عنه ، حتى أسنانه تركت فمه خاويا على عروشه !
يلمحني شاردا فيقبل نحوي مخترقا حصار أحبابه الصغار ، يضع كفه على رأسي ،
فأشعر بغليان قلبه ،
يبادرني : اسمك ايه ياشاطر ؟! محمد ..
انا أيضا اسمي ، محمد !
محمد ؟! فلما ينادونك ب " الحرامي " ؟!
حكاية طويلة ..
تعال خد مصاصة ، يمكن تكسب ..
أتراجع ، متوجسا ، خوف ينتابني وحيرة تلفني !
أنى لهذا الرقيق الحنون ، الذي يبدو في تراقصه ومرحه وسط أحبابه الأطفال ،
كعصفور جريح ،
أنى له أن يكون .. " حرامي " ؟
الهي ، أهذا يسرق ؟! ولماذ يسرق ؟! وماذا سرق ؟! ومن ؟! ومتى ؟!
قلبي الصغير الناصع ، الذي لايكذبني أبدا ، يقول لي أنه ضحية ، تعرض لظلم فادح ، ربما من عزيز لديه !
أعرف ذلك من بحة صوته الباكي ، من عينيه الحمراوين الدامعتين ، من لهاثه المتصاعد من قلب محموم ،
من بنيانه الذي يبدو وكأنه تهدم بفعل فاعل طاغية أحمق غشوم ، دهس شبابه الزاهر ،
من انحناءة خفيفة في أعلى ظهره ، ربما من أثر ضربة غادرة لم يتوقعها من الأيام ،
من نظرته الشاخصة المعاتبة ، المسمرة على طيف قاتله الذي لايفارقه !
تنفد الحلوى وينفض الصغار مودعين " الحرامي " من كسب منهم ومن لم يكسب !
وأبقى أنا يغمرني التأثر ويدفعني الفضول ،
لأتبعه في عودته ، أرقبه يمشي مندفعا الى الأمام ، شاخص البصر ، لايلوي على شيئ ،
حتى ينعطف الى مطعم صغير ، يلتقط رغيفين ، يضع عليهما أقراصا من الفلافل الساخنة ، رشة ملح ،
يستند الى حائط ظليل ، يزدرد طعامه بفتور ، كمريض فى نقاهة، يلتقط " قلة " الى جواره ، يصب ماؤها في جوفه كمن يطفئ حريقا !
ينهض متجها الى صاحب المطعم ، يعطيه قروشا ،
يظل يفركها ويتحسسها ويقبض عليها كمودع لحبيب ،
ففيها دفء وحنان وبراءة أكف أحبابه الصغار !
يستأنف مسيره ، فيلحظني ..
روح ياشاطر ، روح يا شاطر " علشان أمك متقلقش عليك " ..
أريد أن أعرف الي أين تذهب ..
أنا لا أذهب الى مكان ، أمشي بانتظار الصباح ، لأعود الى حضن .. أحبابي الصغار !
.. تمر الأيام ، ويبوح لي " الحرامي " بحكايته ..
كنت طفلا جميلا مثلك ، لأم بارعة الجمال ، سابغة الحنان ، وأب بادي الفتوة والشباب ، بالغ الثراء ،
تغمسني أمي فى حنانها و يغمرني أبي بتدليله ، وبينما أتقلب بين الحنان والتدليل ، اذا بعاصفة هوجاء ، عمياء بلا قلب ،
تخطف أمي على غرة ، في مرض ألم بها فجأة ، فذابت وتلاشت ، ولقيت رب كريم ،
لأصبح بجناح مكسور وقلب خائف مذعور !
لم يمض وقت طويل ، حتي تزوج أبي من امرأة فاتنة لعوب ،
من أول نظرة نارية سددتها لي ، من عينيها المتوحشتين ، فهمت أنني غير مرغوب في ، وأعددت نفسي للطوفان ،
طوفان ؟! أي طوفان ؟! وأبي معي ولن يتخلى عني أبدا !
سرعان ما أسفرت المرأة المحتلة ، التي أحتلت قلب أبي وفراش أمي ،
عن عبوديتها للذهب وشغفها بالمال ولهفتها على الرجال ، المزيد من الرجال !
ولكي تنعم بحريتها ، وتنصب خيمة عبثها الماجن ، كان عليها أن تكسر قيدا يقيدها ، بل يخنقها ، هو أنا !
ظلت تحفر الأخاديد بيني وبين أبي ، الذي كان حبيبي ، حتي اذا أتسع الأخدود وتعمق ،
سكبت فيه وقود خستها ، وأشعلت نار غلها الفاجر ، وألقتني فيه بلا رحمة ، لتتهمني بسرقة مصاغها !
في البداية لم أعبأ لفريتها ، لرهاني على قلب أبي المحب لضناه ، لكن سرعان ماهان علي ظلمها وتواضع ،
أمام صفع أبي الغادر المتلاحق ، أبي الذي ألقى بي كنفاية على قارعة الطريق !
لم أرد عليه الا بنظرة عتاب ، مازلت أنظرها لطيفه الماثل أمامي ،
وسأظل أسددها له حتي يحكم الله بيننا !
همت على وجهي ، لم يعد يعنيني من الدنيا شيئ بعد غياب أمي وسقوط أبي ،
كلما سألني أحدهم .. ما أنت ؟ أقول : الحرامي ،
لأبقي نار الغضب مستعرة في قلبي ليوم الحساب !
عدت الى الأطفال ، حيث لم أظفر من دنياي الا بطفولتي ، أعيشها معهم كل نهار ،
ثم أمضي في طريقي لاواصل معاتبة طيف أبي ،
أبي الذي كان حبيبي !
ترى يا محمد ، من الشريف ، ومن .. " الحرامي " ؟!
محمد صلاح
10 رمضان 143210 أغسطس2011